أصبح موقف الدول الأوروبية أكثر حرجاً وتأزماً وتناقضاً تجاه ملف أزمة الاتفاق النووي الإيرانى ، بعد انضمام ست دول هي هولندا والنرويج وفنلندا والدانمارك والسويد وبلجيكا إلى "آلية انستكس" فى التاسع والعشرين من شهر نوفمبر الماضي، وهي آلية تعني مواصلة العمل التجاري مع إيران رغم إعادة فرض واشنطن للعقوبات ضدها، والتي رحبت بالآلية كل من ألمانيا وفرنسا وبريطانيا التي أنشأت الآلية في الأساس. وبذلك تبدو الدول الأوربية تتحرك في الاتجاه المعاكس وتسبح ضد التيار، لاسيما وأن هذه الخطوة جاءت على خلفية اتخاذ إيران خطوتها الرابعة الخاصة بتخفيض مستوى التزاماتها في الاتفاق النووي، عندما أعلنت في الخامس من شهر نوفمبر أيضا، استئناف عمليات تخصيب اليورانيوم في منشأة (فوردو) على عكس ما يقضي الاتفاق النووي الذي ينص على حصر عمليات التخصيب في منشأة (ناتانز) فقط. يُشار إلى أن الآلية الأوروبية المعروفة إعلاميا باسم "إنستكس"، هي مبادرة أطلقتها بريطانياوألمانيا وفرنسا في يناير الماضى من أجل الالتفاف على منظومة العقوبات الأمريكية على إيران، وتسمح الآلية الأوروبية للشركات بالتبادل التجاري مع إيران رغم العقوبات ولكن وفق شروط محددة، من أهمها أن يقوم التبادل التجاري على نظام المقايضة، أي مبادلة النفط الإيراني بأموال أوروبية تصرف فقط على الأدوية والمواد الغذائية في إيران. ارتداد أوروبي كشفت هذه الخطوة عن هشاشة الموقف الأوروبي برمته تجاه كيفية التعامل مع الموقفين المتعارضين الأمريكي والإيراني، وزادت من حدة ارتباك المشهد السياسي ، وربما يأتي بانعكاسات ومردودات سلبية تجاه الملف المعقد والمثير للأزمات دوما بين واشنطنوطهران. وقد بعث هذا التراجع الأوروبي لطهران بعدة رسائل خاطئة لعل أبرزها عدم وجود موقف غربى موحد تجاهها بما يعنى إمكانية توسيع هامش المناورة لاسيما فى ظل حالة التباين السائدة بالسياسات الأمريكية والأوروبية، يضاف إلى ذلك احتمالات مواصلة نهج التحدى ورفع مستوى وكمية اليورانيوم المخصب إلى المرحلة التي كان عليها برنامجها النووي قبل الوصول إلى خطة العمل المشتركة مع مجموعة (5+1) في 14 يوليو 2015، والتي رفعت بمقتضاها العقوبات الدولية التي كانت مفروضة عليها في منتصف يناير 2016. فضلاً عن حالة التناقضات فى موقف أوروبا والتي يمكن تلمسها من خلال انتقاد وزير الخارجية الألماني، هايكو ماس، قرار إيران تسريع تخصيب اليورانيوم، قائلاً في مؤتمر عُقد في الرابع من نوفمبر 2019 بالعاصمة المجرية بودابست: (نرى أن هذا أمر غير مقبول)، وذلك في إشارة إلى ما أعلنته طهران عن خفض التزاماتها بموجب الاتفاق النووي. هذه الخطوة الأوروبية تجعل إيران تزداد تصلباً في موقفها وتواصل مسيرة عدم الوفاء بالتزاماتها تجاه الاتفاق النووي الموقع عام 2015، ولذلك بعثت طهران بعدة رسائل خاطئة تعقيباً على هذه الخطوة، تمثلت في تأكيد وزير الخارجية الإيراني محمد جواد ظريف انتقادات إيران للسياسة التي تتبعها الدول الأوروبية في التعامل معها في 12 نوفمبر المنصرم، حيث قال أن "الأوروبيين لم ينفذوا ولا وعد واحد من الوعود التي قطعوها طوال 18 شهراً"، أي منذ الانسحاب الأمريكي من الاتفاق النووي في الثامن من مايو 2018. وفي ذات السياق قال المساعد الاقتصادي لوزير الخارجية الإيراني غلام رضا أنصاري، في الرابع والعشرين من نفس الشهر، أن (حجم التبادل التجاري بين إيران والدول الأوروبية وصل في الأشهر التسعة الأولى من عام 2019 إلى 3 مليارات و800 مليون دولار، منها 500 مليون دولار صادرات إيرانية لتلك الدول). امتعاض واشنطن لم تلق الخطوة الأوروبية الجديدة قبولاً من جانب الولاياتالمتحدةالأمريكية، كونها تزامنت مع توجيه واشنطن اتهامات لإيران بدعم الإرهاب، من خلال استغلال العوائد المالية التي كانت تحصل عليها الأخيرة من تصدير النفط، قبل الانسحاب الأمريكي من الاتفاق النووي. وقد أعلن البيت الأبيض في الثاني من ديسمبر الجاري، أن الرئيس الأمريكي دونالد ترامب بحث هاتفياً مع رئيس الوزراء الإسرائيلي المنتهية ولايته بنيامين نتانياهو، التهديد الإيراني، وكتب المتحدث باسم البيت الأبيض، جود دير على حسابه على موقع تويتر، أن "الجانبين بحثا التهديد الإيراني، وكذلك القضايا الثنائية والإقليمية المهمة". وذكرت هيئة البث الإسرائيلي أن الملف الإيراني سيكون في صدارة الموضوعات التي ستتم مناقشتها خلال سلسلة لقاءات يعقدها نتانياهو في لندن، على هامش مؤتمر قادة حلف شمال الأطلسي (ناتو)، ومن المتوقع أن يلتقي نتانياهو بوزير الخارجية الأمريكي مايك بومبيو، والمستشارة الألمانية أنجيلا ميركل والرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، من أجل التباحث بخصوص الشأن الإيراني وخاصة الاتفاق النووي، كان نتانياهو قد انتقد بشدة خطوة الدول الأوروبية، واعتبر أنها تقدم تنازلات إضافية لإيران. في حين دعا وزير الخارجية الأمريكي، مايك بومبيو، الدول الأوروبية للانسحاب من الاتفاق مع إيران حول برنامجها النووي، وقال بومبيو في كلمة له بجامعة لويفيل في الثاني من ديسمبر الحالي "ندعو (الأوروبيين) للتخلي عنهم (الإيرانيين)، لأن هذا الأمر (البقاء ضمن الاتفاق) غير بناء". وأضاف بومبيو قائلاً أن "الخبراء أخطأوا عندما اعتبروا أن العقوبات الأمريكية الجديدة ضد إيران ستكون عقيمة إن لم تنسحب الدول الأوروبية من الاتفاق"، واصفا العقوبات الأمريكية على طهران بأنها "فعالة". كما انتقد مسؤولون أمريكيون الخطوة الأوروبية، إذ قال السناتور الجمهوري مارك روبيو، في الثلاثين من نوفمبر الماضي أن "النظام الإيراني يستمر ليس فقط في انتهاك الاتفاق النووي، وإنما أيضاً في قمع وقتل الإيرانيين. يتعين على بلجيكاوهولندا والسويد والدانمارك وفنلندا والنرويج الوقوف مع الإيرانيين بدلاً من المناورة للقيام بأعمال تجارية مع هذا النظام". يبقى القول أن الدول الأوروبية بإقدامها على هذه الخطوة الجديدة، فقدت وسائل تأثيرها وقدرتها على إقناع الطرفين الأمريكي والإيراني بالاستمرار في الاتفاق النووي الموقع عام 2015، وباتت تواجه موقفاً صعباً، باعتبار أن السياسة التي تتبناها في التعامل مع التصعيد المستمر بين إيرانوالولاياتالمتحدةالأمريكية لم تعد تكتسب أهمية وزخماً خاصاً من جانب الطرفين، على نحو يوحي بأن تأثيرها على استمرار العمل بالاتفاق النووي، سيكون محل شكوك خلال الفترة المقبلة، خاصة مع اقتراب موعد انتخابات الرئاسة الأمريكية 2020. المصدر/أ ش أ/ (مركز أبحاث ودراسات الشرق الأوسط)