حين أصبحنا نعيش داخل أنفسنا... «رحم الله من عاش وحيدًا ومات وحيدًا يحسبهُ الجاهل فى غنى واكتفاء وقد كان إلى حضن الناس أحوج». وكأنما وضعتنا مأساة وفاة الممثل الشاب هيثم أحمد زكى بهذا الشكل المحزن أمام أنفسنا أو أمام المرآة للحظات كى نتساءل: هل حقًا مازلنا نعيش معًا أم أن الآخر بكل معانيه وأشكاله قد فقد كثيرًا من اهتمامنا وانحصرت دائرة عقولنا بل وقلوبنا على أنفسنا فقط.. إنها أشد سنوات الفقر الإنسانى حين نتذكر بعضنا فقط بعد الوفاة..!! يُحكى فى الأثر أن أبناء هذا البلد كانوا أكثر ترابطًا والتحامًا مع الآخر مما نحن فيه اليوم حين كانت أبواب البيوت دائمًا مفتوحة أمام الأهل والجيران.. حين كانت البنت أو المرأة تسير فى الحارة المصرية آمنة مطمئنة وهى تثق تمام الثقة أن «رجالة الحتة الجدعان» سيوفرون لها الأمن والحماية ضد أى تحرش أو اعتداء.. عندما كانت موائدنا «عامرة» ليس فقط بألوان الطعام الشهى ولكن بالحب والضحكات ولمة الأهل والأصحاب والجيران. يُحكى أيضًا أننا قبل سنوات قريبة كانت حياتنا أكثر هدوءًا وأقل تعصبًا حتى بين الأنداد والمختلفين فى الفكر.. أتذكر أنه قبل عشرين عامًا أو أكثر قليلاً كانت «شلة الجامعة» تضم اليسارى والإسلامى والليبرالى والماركسى وابن عامل النسيج وحفيد الباشا الأرستقراطى.. كنا نختلف فى الفكر والمستوى وأسلوب الحياة لكن لا نسمح بأن يتحول الاختلاف إلى خلاف فالكل إنسان يحق له أن يؤمن بما يشاء ويحيا كما يشاء ولكن فى إطار من الحب والقبول للآخر أو على الأقل فصل اختلاف الفكر والعقيدة والمذهب والطبقة عن معانى التراحم والود والإنسانية والصداقة. يُحكى أن البر والتراحم لم يكن لهما فى بلادنا مواسم أو أعياد كما هى الآن ولكن كانت كل أيامنا مودة وصلة أرحام. كنا نجلس بعد صلاة الجمعة مع الأب والأعمام نستمع للقاء الشيخ الشعراوى أو كنا نتجمع كبارًا وصغارًا أمام مباريات كرة القدم حتى لمن لا يفهم فيها أو يعشقها.. ليلة الخميس كان الكل معًا أمام التليفزيون الصغير لمشاهدة مسرحية لعادل إمام أو فيلم ليوسف شاهين.. كنا نفتقد من غاب ونبحث عنه ونتألم لمن يتألم ونفرح لنجاح الآخرين ونتقاسم الضحكات فى تناغم عفوى حتى نسقط من التعب عند مطلع الفجر فينام الجميع سعيدًا مرتاح البال. يحكى أن أبناء هذا البلد الطيب علموا الدنيا معانى الشهامة والتراحم والتآخى وحسن الضيافة ونجدة المحتاج وإعانة الضعيف واحتواء الوحيد المنكسر حتى صارت تلك المسميات لصيقة بنا حين نزور اى بلد عربى شقيق فيقولون (مصرى شهم ومصرى جدع) أو (المصرى أبو الكرم والرجولة) فماذا حدث لنا وكيف تركنا هذا الشاب وأمثاله يموتون بداء (كسرة القلب)؟!.. كيف تركنا كبار السن رجالًا ونساءًا جالسين فى الطرقات ليل نهار ينهشهم البرد وهم يتسولون لقمة عيش دون أن تهتز مشاعرنا.. كيف اختفت صلة الرحم بيننا فأصبحنا لا نجتمع إلا فى سرادقات العزاء .. يُحكى أن ويُحكى أن ولكن ماذا سنحكى نحن لأحفادنا بعد عشرات السنين.. عن أى أشياء سنحدثهم وكيف سنبرر لهم هذا الاختلاف الرهيب فى قيم وصفات هذا الشعب خلال عقد أو اثنين من الزمان.. إنها سنوات الفقر تنهش جذورنا وقيمنا وتراثنا الإنسانى ونحن صامتون فانتبهوا أيها السادة فالحياة لا تستحق كل هذا الانفصال والانغلاق على الذات فاليوم نحن فوقها وغدًا لا نعلم أين سنكون.. رحم الله من عاش ومات وحيدًا يحسبهُ الجاهل فى غنى واكتفاء وقد كان إلى الناس أحوج..!!!