'ارحل'.. الهتاف زلزل الميدان والقلوب. الصورة كادت تتطابق مع اليوم نفسه في عام 2011 إلا أن الصورة في 2013 اتخذت منحي مختلفاً، ربما تعجز الكتابة عن التعبير بدقة عن هذا الكَمّ الهائل من الغضب للناس في شوارع وميادين مصر التي خرجت لتكتب فصلاً جديداً من الرفض أن تكون البلاد منذورة للخيبة والشقاء. في البداية استعاد الشارع حيويته وسادت شعارات الرحيل وسقوط النظام ورفض جماعات سرقت الثورة وتقتات بالعنف ولا تحيا إلا علي جثث الآخرين. وانتهي الشارع الي عنف وغضب أقوي ينهي حالات الانكسار التي سادت خلال العامين الماضيين، وظهرت في المشهد مجموعات ال"بلاك بلوك". مجموعات من فتيان وفتيات، لأول مرة، ترتدي أقنعة سوداء، لاتنتمي الي أي تنظيم سياسي، وقدموا أنفسهم علي أنهم جزء من الكل في العالم يسعون لتحرير الإنسان وهدم الفساد وإسقاط الطاغية في كل بقاع الأرض، ورفعت شعارها الذي يتمثل في اتحاد الهلال مع الصليب وأعلام مصر وظهروا في أماكن عدة، من القصر الجمهوري الي محطات المترو ومقار الإخوان، معلنين تحديهم ومواجهتهم لجماعة الإخوان المسلمين واصفين إياها بالطاغية الفاشية، ومحذرين من أي تدخل من مؤسسة الداخلية بهذا الشأن. بدت مجموعات ال 'البلاك بلوك' كأنها كلمة السر في المعارك المستمرة سواء في شارع قصر العيني أو أمام ماسبيرو أو الاتحادية، أو كل الميادين المشتعلة بالغضب والمواجهة التي وصلت أقصي حد في الاستفزاز خصوصاً بعد التصريحات بأن جنود الأمن المركزي أصابتهم حالة هيستيريا بعد مقتل زميلهم مجند الأمن المركزي، فراحوا يقتلون المتظاهرين في السويس التي شهدت كما في الثورة الأولي أول دم. تحولت البلاد الي ساحة حرب شوارع، كر وفر وهجوم وقطع طرق وسحابات غاز كثيف تعطي للمشهد هيئته الكاملة في الغضب، بينما يكتفي الرئيس برسائله القصيرة أو تغريداته علي 'تويتر' يقدم عزاءه لأهالي السويس ويتوعد فيها المجرمين!!، رسائل أثارت غضباً وسخرية علي مواقع التواصل الاجتماعي حتي أن البعض وصفه بأنه 'أول مدير دار مناسبات منتخب' لأنه لم يتعامل مع الأمر بوصفه رئيساً للبلاد، فكتب له نشطاء علي فيس بوك: 'حد يفهمه إنه الرئيس.. يا مرسي قول أنا الرئيس.. أنا الرئيس.. أنا الرئيس. يمكن تصدق'. السخرية جاءت بعد "تويتات" الرئيس المخزية، وبعد السؤال المتكرر 'أين الرئيس؟' في ظل أن العنف أصبح هو الأمر الواقع، والرئيس ينزوي في مكان مجهول، والإخوان يتلونون بين الاستضعاف علي طريقة 'يقتل القتيل ويمشي في جنازته' وبين التهديد الخفي باستخدام العنف المضاد والترويج المقصود لقوة الإخوان وتيار الإسلام السياسي واستعدادهم للمواجهة، كما أعلنت جماعة تطلق علي نفسها اسم 'قاعدة الجهاد في مصر' عزمها علي مواجهة ما وصفته بالعدوان العلماني الصليبي علي رئيس البلاد، 'الخليفة' محمد مرسي!!، فيما نشر حزب الحرية والعدالة صوراً مزيفة من ال'البلاك بلوك' المكسيك علي أنها حرق محلات في مصر، وذلك ضمن خطة قديمة ومكشوفة لتقسيم الشارع، والشارع يصدح بأغنيته الخاصة متحدياً كل الألعاب المكشوفة ومهدداً أيضاً: 'والله بعودة وبعودة.. ليلة أبوكوا ليلة سودا'. يستعر الاحتقان الداخلي في الشارع المصري، بعد ما ازداد الضغط وتنوّع. تنفتح الاحتمالات علي السيئ أو الأسوأ، ولكن لا يُغلق باب الأمل. الخلاص يأتي من الشارع وليس من الساسة الذين يتحركون الآن وراء حركة الشارع. تبدلت اللحظة الآنية، الشارع يتحرك بتلقائية ويخلع رداء الإحباط والانكسار، والعيون المتعبة تظهر عناداً، فيما تحاول الرموز السياسية توجيه حركته وتفعيل دورها، والشارع الذي يتخلي عن مرارة الخيبة بقوة الغضب بدا أيضاً في الميدان واعياً حين رفع صور أم كلثوم وسعاد حسني ودرية شفيق وشاهندة مقلد... أسلوب آخر لتأكيد دور المرأة في المجتمع وفي الثورة، والذي تقاتل المرأة المصرية بجسارة من أجله وتقف في مقدمة صفوف الثورة منادية بالكرامة والحرية والعدالة الاجتماعية. سيدة تتشح بالسواد في ميدان التحرير تصرخ: 'الله يخرب بيوتكم سرقتوا فرحتنا' ثم تبكي وتستطرد: 'يعني الناس تعمل ثورة والعيال تموت عشان احنا نعيش وتيجي الجماعة دي اللي اسمها الإخوان تسرق الثورة وفرحتنا بيها وتقتل تاني عيالنا وأملنا'، تربت فتاة علي كتف سيدة وهي تحاول أن تساعدها علي النهوض وتقول لها: 'ما تخافيش ياأمي دم المصري مش رخيص'، بينما وقف شاب في الجهة المقابلة يحمل لافتة كتب عليها: 'قلت في كل اللقاءات.. لو خرجت ضدي مظاهرات هارحل عنكم في سكات. طب ارحل'، ورجل يطوف الميدان وهو يحمل صورة عبدالناصر، وبالمناسبة صور ناصر انتشرت في كل الشوارع وكل الميادين، يبتسم الرجل ويقول: 'ناصر الرئيس الوحيد اللي أحب مصر وناسها.. والاخوان بيتضايقوا أوي منه عشان كان عارفهم علي حقيقتهم. عشان كده هنملا الشوارع بصوره'، عجوز يحمل صورة ابنه الشهيد يقول: 'حاجة تجنن. التفسير الوحيد اللي ممكن نقوله ان الإخوان يكونوا بيشوفوا بعين واحدة أو. بيتكلموا لغة مختلفة أو بيفهموا أشياء مختلفة، مش عايزين يشوفوا الحقيقة إحنا كلنا أهه في الميدان مش عايزينهم.. اللي كذبوا علينا وماجابوش حق الشهدا'. وعبرت صبية أمسكت في يدها لافتة أخري بها ثلاث كلمات فقط 'سلام علي الألتراس'. ألتراس الأهلي الذي أشعل الغضب مبكراً قبل النطق بالحكم في قضية مذبحة بورسعيد بيومين حين أصاب القاهرة بشلل شبه تام مصراً علي نيل حق شهدائه، وروج شعاراته 'دم المصري هو الدولة.. دم المصري هو الأولي'، وأثر ذلك في الحكم الذي قضي بإعدام 21متهماً بالقتل، هم من مواطني بورسعيد، بينما لم يحسم أمر ضباط الشرطة و مدير الاستاد ومدير الأمن، وتأجل الحكم علي باقي المتهمين يوم 9 مارس، يبدو كأن الأمر خطة لتحويل الصراع مع السلطة الي صراع مع أهالي بورسعيد. وبصرف النظر عن أن حكم الإعدام هو مجرد حكم أولي قد يتم إلغاؤه في الاستئناف والنقض ، يظل السؤال الملغز: هل من تم الحكم عليهم بالإعدام هم 'كبش الفداء'، والمحرضون والقتلة الحقيقيون لم يقدموا الي المحاكمة من الأساس؟! السؤال تعبير عن حالة عدم الشفافية والعبث التي أرساها الإخوان الذين يتجاهلون الانفجار الشعبي في الشوارع ويروج حزب الحرية والعدالة لمشروعاتهم في تشجير الشوارع أو دهان الجدران أو حتي دعمهم لعلاج بعض المرضي..!! علي أي حال، فإن الغضب الآن هو سيد الموقف في شوارع وميادين مصر.. فصل جديد من الدم، وأصبح الوطن علي يد الإخوان ساحة جديدة للقهر، وتحولت الشوارع كلّها إلي مسارب مصقولة بالوجع، لا أحد يستطيع أن يخمن ما هو القادم، ولكن لأن كل الجرائم التي حدثت ليست للنسيان، فإنه يكون من الطبيعي جداً أن تهتز الشوارع بأصوات المصريين حين يهتفون: 'يسقط يسقط حكم المرشد'.