لست أدرى هل أحببته منذ صغرى دون أن أعرف، وبدون أن ينتبه أحد؟! أم أننى قد فعلت حينما أدركت جماله، وتخلصت من كل الأعباء المرعبة التى كانت تصاحبه وتفقده روعته؟! عن الخريف أتحدث، ذلك الفصل الذى يبدأ جغرافيا فى مصر يوم 23 سبتمبر، ذكره العراب أحمد خالد توفيق كثيرا على لسان رفعت اسماعيل - سلسلة ما وراء الطبيعة - قائلا: )أنا أعشق هذا الفصل بحق، وأعتبره أجمل فصول السنة فى مصر، لو أنصف فريد الأطرش لغنى آدى الخريف عاد من تاني، إن عندى ألف سبب لأكره الربيع، احتفظ انت بربيعك بعواصف خماسينة، وحبوب اللقاح والرمد الحبيبى الذى يحرق عينيك، وجو الامتحانات المخيف الذى لا يعنينى فى شيء لكنه يسمم الجو بما يكفى بحيث تتقلص أمعاؤك كلما فتحت النافذة، لترى ذلك الطالب يقف بالفانلة الداخلية فى الشرفة، ممسكا بكتاب عملاق وهو يحك رأسه محاولا إيصال بعض الدم إلى مخه المكدود، انظر إلى اليمين لتجد جارتك الشابة تجلس على الأرض فى الشرفة منكوشة الشعر مثل ميدوسا ولا تنفك تحملق فى الافق محاولة تذكر مساحة كوستاريكا، أضف لهذا أغنية شادية - الشمس بانت من بعيد - خارجة من المذياع ليكتمل الجو الجدير بأفلام الرعب!! أما عن الصيف فلا تعليق، الشتاء يمكن أن يكون محببًا لو لم تكن تمطر طينًا فى كثير من الأحيان، ولو كانت عظامى تتحمله، الخريف هو الفصل العذب الراقى الذى لا يلبس المايوه ولا يعطس فى وجهك، يا لعذوبته، يا لقسوته!! إن الفصول فى مصر قد تتشابه وقد تختلط، لكن شيئا واحدا يميزها، الرائحة، رائحة الأسفلت المبلل فى الشتاء، رائحة حبوب اللقاح و زهور البرتقال القادمة من أرض محروثة هذا هو الربيع، رائحة العرق ورائحة أنسام الليل الرحيمة فى الصيف، لكن الخريف له روائح متعددة، سيحدثك التلميذ عن رائحة ورق تغليف الكتب، ورائحة الممحاة فى الحقيبة الجلدية الجديدة، ويحدثك الموظف عن رائحة الجوافة التى لا تفارق الثلاجة، وسأحدثك أنا عن رائحة المساء المبكر، رائحة أوراق الأشجار المتساقطة تعلن فى انهزام انتهاء مده صلاحيتها، والسحب المهاجرة التى تظهر فجأة فى الأفق لتكسر حدة حرارة الشمس ثم تنسحب بسرعة عندما تدرك أنه ليس موسم سقوط الأمطار، لسعات البرد القاسية المحببة وقت الفجر، نسمات الليل الرقيقة التى أقف فى شرفتى وأستنشقها فى عمق...(. إنه الخريف الذى ودعه نزار قبانى بقوله (وما بين فصل الخريف وفصل الشتاء، هنالك فصل أُسميه فصل البكاء، تكون به النفس أقرب من أى وقت مضى للسماء). الخريف قد جاء أخيرًا بنسماته الأقرب للبرودة، حاملا ملامح الشجن الجميل والحنين لشىء ما لا تدرك ما هو!! منبها كالمعتاد لانتهاء لهو الصيف وبدء قيود المدارس، مؤذنًا بتقلص النهار تاركا المساحة الأكبر لليل الشجى!! مجبرا أغسطس على الانسحاب مصطحبا معه حرارته الخانقة ورطوبته اللزجة. جاءت أجواء الخريف لتعود الاسكندرية لأهلها فى أحلى فصول السنة.