تنشر 'الأسبوع' نص المقال الذي كتبه الزميل مصطفي بكري رئيس التحرير في وقت متأخر من مساء 28 يناير2011 ونشرته 'الأسبوع' صباح الاثنين 31 يناير2011 وفيه طالب بكري الرئيس السابق حسني مبارك الذي كان يتولي السلطة في هذا الوقت بضرورة ترك السلطة والتنحي ليتولي الشعب إدارة أموره في البلاد، كان مبارك في عز سطوته وجبروته ومع ذلك كتب هذا المقال. وصباح السبت 29 يناير 2011 قاد بكري مظاهرة من حوالي 15 ألف مواطن انطلقت من شارع رمسيس إلي ميدان التحرير ثم طافت بعد ذلك أرجاء منطقة وسط البلد وهذا هو نص المقال: السيد الرئيس: لقد خاطبتك كثيرا في مرات سابقة، وطلبت منكم الاسراع بالتغيير، بعد أن ضج الناس من الفساد والاستبداد، الذي أصبح عنوانا لهذا الحكم علي مدي العقود الثلاثة الماضية، وكان آخر هذه التحذيرات مقال الأسبوع الماضي 'جرس إنذار' ولم تمض سوي ساعات قليلة حتي انفجرت الأوضاع، وخرج عشرات الألوف إلي الشارع يؤيدهم في ذلك 80 مليون مصري، أعياهم الفقر والمرض وفقدان الأمل.. لقد تسببت هذه السياسات المجحفة في اصابة 6 ملايين مصري بالأمراض النفسية وأكثر من 20 مليونا أصيبوا بحالة من الاكتئاب الشديد، تراجعت طموحاتنا، واغتيلت أحلامنا، تبخرت كل الوعود في التغيير والرفاهية والقضاء علي مشكلة البطالة. تزايدت معدلات الفقر وأصبح ربع المصريين تحت خط الفقر، بينما البقية الباقية تعيش علي 'الستر' بالكاد، باستثناء من 200 - 400 شخص احتكروا ثروة هذا البلد، أغلبهم بطرق غير مشروعة، بعد أن فُتِحَت أمامهم أبواب تملك مئات الآلاف من الأفدنة، اقترضوا مليارات الجنيهات من البنوك، تلاعبوا بالبورصة واقتصاد البلاد، تملكوا مؤسسات الدولة الناجحة واحتكروها بعدما خصخصوها. لو راجعت أرقام البورصة ياسيادة الرئيس، ولو سألت هؤلاء: من أين لكم هذا؟ لعرفت أن غالبيتهم كانوا علي وشك الافلاس في عام 2003، فقل لي بالله عليك: كيف؟ ومن أين جاءوا بكل هذه المليارات؟! وهل حققوا ذلك في غفلة من الزمن بعيداً عن عيون الدولة، أم أن هذه العيون غضت الطرف عن التجاوزات والانحرافات، ومنحت التسهيلات لأكبر عملية نهب منظم لأراضي وممتلكات الدولة وصناعاتها الاستراتيجية؟! إنني أضرب لك مثالا واحدا هنا، هو السيد/ أحمد عز، هذا الرجل المقرب اليكم، والذي حظي بعنايتكم قبل أن يجبر علي الاستقالة ويحاول الهرب إلي خارج مصر بغنائمه، أحمد عز هذا ياسيادة الرئيس كان عازفا في فرقة موسيقية، تجوب الفنادق ودور الترفيه، وفجأة صعد ليتحول في سنوات معدودة إلي الرجل القوي بالحزب الحاكم يأمر فيطاع، يصفي حساباته مع من يريد، اختصر الوطن في شخصه، تحول من شخص اتهم والده في عام 1989 بتهمة تغيير العملة إلي رجل يحكم ويتحكم في شئون العباد. في هذا الوقت لم تكن ثروة أسرته وثروته تتعدي المليون جنيه، اليوم أصبح يمتلك 60 مليار جنيه بعد أن مكنته الدولة من احتكار أكثر من 67% من صناعة الحديد في مصر، ومكنته من السيطرة علي 50.28% من أسهم شركة الدخيلة، قل لي بالله عليك هل هذا هو التطور الطبيعي للثروة ياسيادة الرئيس ام أن الرجل خارق لكل القواعد الطبيعية والاستثنائية، أم أن هناك عيونا تحميه، وأيادي تفتح له الطرق نحو مزيد من الثروة؟! أحمد عز يا سيادة الرئيس، هدد منذ أكثر من عام بنسف المعارضة وإسقاطها في البرلمان، فماذا فعلت؟ لقد تركته يزور الانتخابات ويُسقط الرموز، ويباهي بأنه استولي بالتزوير علي غالبية مقاعد البرلمان!! وكانت صدمتنا عاتية، عندما خرجت ومن فوق منبر مجلس الشعب لتتباهي بأن الانتخابات كانت نزيهة باستثناء بعض السلبيات، وبأنك كنت تتمني تمثيلاً أكبر للمعارضة، لكن يبدو كما رأيت أننا انشغلنا بالجدل حول المقاطعة، فضاعت منا المقاعد فجأة، مع أن سيادتك تعلم علم اليقين أن قرارا كان قد اتخذ بإسقاط كل المعارضين وكل المستقلين الشرفاء. طالبناك بحل البرلمان، ولكنك رفضت، طالبناك بالتدخل لتنفيذ الاحكام النهائية التي أصدرتها المحكمة الادارية العليا ولكن ذلك لم يتحقق. لقد حذر الجميع من خطورة ممارسات أحمد عز، هذا الرجل الذي أصبح اقوي من الحكام، بل وأقوي من النظام بأسره، لكنه للأسف كان يتمتع بحمايتك الشخصية وحماية نجلك جمال مبارك، وما كان أحمد عز أو غيره يجرؤ علي فرض سطوته بهذا الشكل إلا لكونه يحظي بدعم شخصي من سيادتكم. لقد تركتموه يهيمن علي كل شيء، ويتخذ القرار الذي يراه مناسبا، ويتعامل حتي مع رموز النظام علي أنه هو صاحب القرار الفصل في شئون هذا البلد، وأن علي البقية - مهما علا شأنهم - أن ينصاعوا لما يريد. صرخنا بكل قوة، حذرنا من خطورته علي الوطن وعلي النظام، ولكن يبدو أن سيادتكم كنت تري أن أحمد عز هو الرجل المناسب للتعامل معنا، وأنه خير ممثل للنظام، وان الآخرين مهما بلغ ولاؤهم لكم، فهم يجب أن ينصاعوا لما يقول.. لقد وعدتنا منذ عام 1981 بإلغاء حالة الطوارئ وطلبت مهلة لمدة عام فقط ولكن الطوارئ استمرت ولاتزال.. استبشرنا خيرا عندما وعدتم في برنامجكم الانتخابي عام 2005 بأن حالة الطوارئ لن تجدد مرة أخري غير أن الحكومة جاءت إلي البرلمان لتقدم مبررات واهية، وزعمت أنها عاجزة حتي الآن عن الانتهاء من إعداد قانون لمواجهة الإرهاب. تحدثنا عن الفساد كثيرا، قدم الكثيرون مستندات دامغة، بل تولت اجهزة رقابية الابلاغ عن بعض الوقائع الخطيرة، وياللعجب، الفاسدون يمرحون رغم أن فسادهم وصل إلي عنان السماء. لقد غاب مبدأ الثواب والعقاب وأصبحت الشفافية من نوادر هذا الزمن، وكأن هناك إصراراً علي حماية الفساد والمفسدين. لقد بيعت الشركات الناجحة والمصانع الكبري برخص التراب لبعض النصابين الذين يسمون أنفسهم بالمستثمرين، خربوها وسرقوا كل ما لديها ثم قرروا بيعها لآخرين ليتم بيعها خردة، ولنا دليل في العديد من الشركات مثل المراجل البخارية أو المعدات التليفونية أو عمر أفندي وغيرها كثير. وازدادت علي أرض هذا الوطن سلطة الدولة البوليسية فانتهكت حقوق الإنسان علي أوسع نطاق وفتحت أبواب المعتقلات والتعذيب، وأصبحنا نشعر بأننا في سجن كبير، بعد أن أصبح كل المصريين أعداء للنظام وتقزم دور مصر كثيراً، تنفجر الاوضاع ويقسم السودان وكأننا غير معنيين، الخلافات تهدد وحدة لبنان، وتتحرك تركيا وسوريا والسعودية وقطر ونحن غير معنيين بشيء، تتغلغل 'إسرائيل' في افريقيا ويتراجع دور مصر وتهدد مياه نهر النيل وكأن الامر لا يعنينا في شيء. أصبح الحديث عن ضرورات الأمن القومي المصري والعربي يُقابل بسخرية من الحكام والاعلام الرسمي، أُهين المصريون في الخارج ومورست ضدهم كل أنواع الذل، ولكنهم في نظر النظام دائماً ملومون، ويستحقون ما هو أسوأ من ذلك!! ثلاثون عاماً ونحن ننتظر التغيير، أو الانتخابات الحرة، ولكن لا أمل ولا رجاء.. بلدان أقل منا حضارة وتقدما وقوة تمتعت شعوبها بالديمقراطية والتداول السلمي للسلطة، وراح رئيس حكومتكم السابق أحمد نظيف المقال تحت ضغط الشارع يتهم المصريين بأنهم شعب لم ينضج بعد. يتحدث الكافة عن تجاوزات الكبار من رئيس الوزراء السابق إلي الوزراء وإلي كبار المسئولين، ولكن لا محاسبة ولا تغيير، حتي أصبح الناس يتندرون في الشارع ويقولون يبدو أن المقصرين والفاسدين يمتلكون حصانة البقاء إلي أبد الدهر. تعبنا، ومرضنا، وشعرنا بالإحباط، والمهانة، فرُحنا نخاطبك ونطالبك بالتغيير فكان الرد إسقاطنا في الانتخابات عن عمد وفرض المزيد من الحصار علي كل صوت وطني يقول لا.. انطلقت المظاهرات من كل مكان علي أرض مصر، شباب وشابات تربوا في فترة حكمكم فأصابهم الإحباط والإعياء وفقدوا الأمل في التغيير فخرجوا.. سقط الضحايا ومورس القمع ضد الجميع، تدخل أوباما ليقول إنه نصحك كثيرا، وليعرب عن تعاطفه مع إحباطات المتظاهرين، صدرت بيانات من كل أنحاء الدنيا فكان الرد عليها مزيداً من القمع والاعتقالات، وقطع الانترنت بل قطع خطوط الهاتف النقال. وكان يوم الجمعة هو يوم الحشر، سالت دماء كثيرة في الشوارع، سحق رجال الأمن المواطنين وسحلوهم، اطلقوا عليهم الرصاص بلا رحمة، امتهنوا كرامة الناس، ضربوهم بالقنابل المسيلة للدموع بكل عنف وكل قوة، لكن الناس لم تتراجع ولم تستسلم. انطلقنا من الأزهر، كانت مظاهرة حاشدة، التقت التظاهرات في الميادين العامة، تجمع شرفاء الوطن بميدان التحرير، كانت الهتافات واحدة 'الشعب يريد اسقاط النظام'.. ملايين المواطنين زحفوا من كافة المحافظات يطالبون مبارك بالرحيل عن السلطة. بعد يوم من المشاحنات، والحرائق التي قام بها البلطجية الذين استعان بهم ضباط المباحث وأخرجوهم من السجون ليندسوا وسط المتظاهرين، صدرت تعليمات عليا للشرطة بالانسحاب. وانسحب الجنود والضباط، تركوا المنشآت والبنوك والشوارع بلا حراسة، انطلق البلطجية الذين جاءوا بهم ليحرقوا ويعيثوا في الأرض فسادًا، عمليات نهب واحراق تنتقل من شارع إلي شارع، مقار ومؤسسات حيوية للدولة راحت النيران تحرقها من كل اتجاه.. وصدر قرار بإنزال الجيش إلي الشارع، وهلل المواطنون لنزول الجيش، فالجيش مؤسسة وطنية تلقي احترامًا في قلوب المصريين، ودوره الوطني له كل تقدير من الشعب. وصدر قرار حظر التجوال، لكن الناس لم تنصع لهذا القرار ورفضته، وظل الناس في الشوارع.. احترقت أقسام الشرطة ومقرات الحزب الوطني بما فيها المقر الرئيسي، وكاد المتحف المصري يحرق لولا حرص المصريين وحمايتهم للمتحف بأجسادهم. انتظر الناس رحيل مبارك، لكنهم فوجئوا بالدكتور فتحي سرور يعلن أن بيانًا مهمًا سوف يصدر بعد قليل، وانتظرنا أن يعلن نبأ إجبار مبارك علي ترك السلطة، لكنه لم يفعل ذلك، بل راح يتحدي الجميع. لقد أطل علينا مبارك من شاشة التليفزيون ليردد نفس الكلمات، ونفس المفردات، التي مللناها علي مدي أكثر من 30 عامًا، حبس الناس انفاسهم، تصور البعض.. لكنه تحدث بذات اللغة، وكأن شيئاً لم يكن.. اقتصر الأمر علي تغيير حكومة بأخري ترأسها الفريق أحمد شفيق وعلي الرغم من مساحة الاحترام الهائلة التي يلقاها الوزير عمر سليمان الذي تم تعيينه نائباً للرئيس إلا أن هذا القرار تأخر أكثر مما يجب