كميناء وكعاصمة قديمة لمصر إغريقية ورومانية كانت الاسكندرية حتي وقت قريب مدينة كوزموبوليتانية (متعددة الثقافات والحضارات) حتي قيام ثورة يوليو 1952 كانت الاسكندرية تعج بالاجانب الذين وفدوا الي الاسكندرية ذات الطقس الاوربي وايضا الطراز الاوربي وبالطبع الاجيال الجديدة التي لا تحب القراءة وتعيش علي الملخصات (بدأ نظام الملخصات في التعليم وامتد الي الثقافة) لا تعرف هذه الأجيال اسباب توافد الاجانب الي الاسكندرية ومصر بشكل عام.. بدأ توافد الأجانب في عهد محمد علي وكثفوا تواجدهم في عصر الخديو إسماعيل الذي أعطي امتيازات أجنبية لهؤلاء الاوربيين والذين كانت لهم محاكم خاصة عرفت بالمحاكم المختلطة (يعني حضرتك مصري تتعارك مع خواجة تروح محكمة مختلطة القضاة فيها اوروبيون وهتخسر هتخسر). ومع الاحتلال الانجليزي لمصر في عهد الخديو توفيق الذي استدعاهم 1882 ازداد الوجود الأجنبي في مصر وساهمت الحروب والمذابح في هجرات الارمن وغيرهم للهجرة الي بلد يحتضن الأجانب ويعطيهم مزايا اكثر من مواطنيه وساهم في اعتزاز الأجانب بوجودهم في الاسكندرية أن المصريين شعب متسامح مع المختلفين معه في العرق أو الدين حتي مع اليهود الذين لهم معبد في النبي دانيال وحارة اسمها حارة اليهود. ولكن مع إعلان دولة إسرائيل في 15 مايو 1948 ثم بدء الحرب العربية ضد الكيان العنصري الصهيوني والتي استمرت حتي فبراير 1949 بدأ المصريون يتوجسون خيفة وريبة من اليهود والذين أحسوا بهذا التغير وهاجر قطاع كبير منهم الي اوربا وجزء أقل الي فلسطينالمحتلة قبل ثورة يوليو 1952. يقدر إريك رولو الصحفي والدبلوماسي الفرنسي (اليهودي المصري ) عدد اليهود الذين هاجروا قبل ثورة يوليو 1972 ب 100 ألف يهودي إذ أن إعلان دولة إسرائيل كان وبالآ علي اليهود العرب الذين اصبحوا غير مرغوب فيهم ومشكوك في ولائهم.. كان عدد اليهود الحاصلين علي الجنسية المصرية من هؤلاء اليهود يقدر ب3آلاف يهودي مصري فقط والباقي يحمل جنسيات اوربية. وبعد قيام ثورة يوليو وبعد فضيحة لافون 1954 (خلية إرهابية يهودية مصرية تعمل مع الموساد وتقوم بعمليات تفجير ضد المصالح الامريكية ) أصبح كل يهودي مصري مشكوك في ولائه من قبل الشعب المصري قبل السلطات فاضطر بقية منهم لم يتحملوا نظرات الشعب المصري لهم أو الآخرين الذين توجسوا شرًا من (العسكر هذا مصطلح صكه مؤسس اسرائيل بن جوريون). ولكن بعد أن فقد الأجانب تلك الميزة النسبية فلا امتيازات أجنبية ولا محاكم مختلطة (تم إلغاء هذه المحاكم والقوانين قبل ثورة يوليو ولكن اثرها المادي ظل ساريا خاصة مع وجود قوات الاحتلال البريطاني في كل مكان علي ارض مصر) قرر أغلبهم الهجرة. وبعد العدوان الثلاثي الذي أعقب تأميم قناة السويس وإنتصار شعب مصر واسترداده القناة قامت الثورة بتمصير الممتلكات الاجنبية والتي كانت تمثل 90 ٪ من عصب الاقتصاد المصري (صناعة القطن والغزل والنسيج والبورصة والبنوك) ورغم كل ذلك وانا المولود في منتصف الستينيات رأيت الخواجة مزراحي صاحب الاجزخانة الشهيرة في الحي الذي أعيش فيه (محرم بك). وكذلك رأيت وتعاملت مع الخواجة (دكران) صاحب محل الحلويات الشهير في نفس الحي وغيرهم. ورأيت وتعاملت مع الخواجة (إسكندر ) اليوناني الذي يسكن في العطارين في الشقة المقابلة لبيت أحد أعمامي، ورأيت وتعاملت مع طنط (آغابي) التي تسكن في الشقة التي تعلو شقتنا والتي تزوجت مصرى قبطى وعاشت في مصر وصارت مصرية صميمة، ورأيت وتعاملت مع الحاجة (تريز) الإيطالية التي تزوجت احد أقاربي وتمصرت شكلا وموضوعا.. كل هذا حتي منتصف السبعينيات قبل هجرات الريف والصعيد تزحف علي الاسكندرية بانتظام ومنذ القدم (أنا نفسي إبن رجل صعيدي هاجر الي الاسكندرية وأحبها ومات ودفن فيها)، كانت الهجرات محدودة وكان المهاجرون يندمجون في المجتمع السكندري المتسامح إذ أنهم يختارون العيش في الاحياء الشعبية كان الأجانب والذين يعملون معهم من الاتراك المتمصرين يختارون السكني علي الكورنيش او في الشوارع المتاخمة للكورنيش (شارع بورسعيد أو الترام وجزء من شارع ابوقير بالاضافة الي قلب المدينة في محطة الرمل والمنشية الافرنجية). وهكذا مع هذا التداخل الثقافي كانت طقوس الاحتفال برأس السنة حتي وقت قريب في الإسكندرية أن يتخلص السكندريون من أشياء قديمة يلقونها من النوافذ في منتصف الليل وكنا نحذر بعضنا البعض ونحن صغار أن نتوخي الحذر والا نخرج في منتصف ليلة رأس السنة إذ قد تصيب رؤوسنا الصغيرة زجاجة أو كاسا أو أحيانا قاعدة دورة مياه كاملة كما تقول الإسطورة وأعتقد أن اليونانيون سنوا هذه السنة، ودخلت كلمات أجنبية في اللهجة السكندرية مثل البياصة (lapiazza) هي تصحيف لكلمة الميدان الإيطالية، وكذلك giroوالتي تم تصحيفها لتصبح زيرو وهي كلمة إيطالية تعني رحلة واعتدنا استخدامها لأي شخص معاه بسكلتة ونطلب منه لفة بها اعتاد السكندريون نطق الكلمات (شربات( بطريقة مختلفة ويوم الأربعاء كذلك، ونزل وطلع وكبر وهكذا دواليك.. ولكن بالبحث عن كلمات مثل (عصبان) والتي تعني الممبار وكلمة (كرنبيط) وتعني القرنبيط لا تستطيع أن تعرف اصل التسمية، والطعمية التي يعرفها الشعب المصري كله يقول عليها السكندري وحده فلافل، والميكروباص الذي ينقل الناس بالاجرة يقول عليه السكندري وحده المشروع، والشنطة البلاستيك التي يعرفها شعب الجمهورية كله يقول عليها السكندري (كيسة)، وشماعة الملابس يقول عليها (رشَاقة) وكلمة (طابق أو دور ) يقول عليها السكندري (كاط) وأغلب الظن أنها كلمة تركية أما محمد واحمد فينطق ابناء الاحياء الشعبية الاسم هكذا (محما واحما واحيانا حمو يقصد محمد ومودي أحمد) ساعة العصاري في السبعينيات كان الشباب السكندري يلعب الراكت بمضارب الراكت وكرة تشبه كرة التنس في الشوارع والحارات وكذلك علي الشواطيء. وعرف السكندري كرة القدم بالطبع ولكن بطريقته إذ عرف الكرة الشراب والتي هي نتاج اسفنج مسروق من منجد من قبل الصنايعي الموسمي الذي يعمل عنده يعطيه لإصدقاءه خلسة أو مسروق من مقعد أتوبيس نقل عام أو من مقعد في ترام وبالطبع الشراب هو شراب قديم للأب وتطور الامر فعرف الكرة البولتيكس وهي عبارة عن بالونة يتم نفخها بشكل متوسط ثم يلف عليها خيط يستخدم للطائرات الورقية ثم توضع في سائل البولتيكس. ولما كانت الكرة تعتبر ثقيلة لحد ما تفتق ذهن المخترع الكروي عن إختراع الكرة الشيكارتون وهي عبارة عن بالونة منفوخة بشكل متوسط ثم يلف عليها خيط الطائرات الورقية ثم نأتي بالشيكارتون (وهو شريط لحام عزل الكهرباء ) واللعب كله علي اسفلت الشوارع في اماكن الورش الصناعية في صلاح الدين والعطارين كان الشاب يخنار يوم الأحد (يوم العطلة الرسمية حتي الآن للصنايعية ) للعب بحرية ولكن أمام إستاد الاسكندرية كانت هناك مساحة كبيرة مواجهة للإسعاف والمشرحة نطلق عليها الاسعاف كنا نلعب الكرة وتقام الدورات والكؤوس والميداليات للفائز كان (سعيد قيَر) وقيًر يعني زعل وغضب أشهر لاعب كرة شراب في بحري وكان لي شرف اللعب أمامه في مواجهة قصر رأس التين، وكان مصطفي الاقرع والربعة وسعيد شنبر ومجدي كمبس أشهر من لعبوا الكرة الشراب في محيط الباب الجديد والعلواية ومحطة مصر، وكان الجيل الذي يليهم طارق أمام وعلي وسامي جاد ومحمود حسن من المجيدين الحريفة في محيط محرم بك. كانت الأجيال القديمة تتعصب لتشجيع الإتحاد السكندري وخاصة أبناء الاحياء الشعبية ولا يحظي أي ناد أخر سواه بهذا الحب فالأولمبي بطل الدوري 1966 هو نادي الموظفين والافندية بالنسبة لهم اما الاتحاد فهو نادي الشعب ونادي المدينة أحببت كرة السلة من مشاهدتي لنادي الاتحاد وجيله الذهبي مدحت وردة وطارق الصباغ و عصام ابو العينين الذي كان جاري في محرم بك وبالطبع وعمرو ابو الخير. أما الحركة الثقافية والفنية في الاسكندرية فهي من أخصب البيئات التي تنتج مبدعين فخالد الذكر سيد درويش سكندري قح كذلك زكريا الحجاوي وكانت قصور الثقافة مثل قصر ثقافة الحرية والانفوشي ومركز شباب الانفوشي هو الملاذ لتعلم العروض وكتابة الشعر علي يد الشاعر احمد السمرة والاستماع الي عبد العليم القباني وعبد المنعم الأنصاري واحمد فضل شبلبول وفوزي خضر وجابر بسيوني وجابر عبد اللطيف، وكان خماسي الاسكندرية بقيادة الملحن محمد الروبي من الذين اثروا إذاعة وتلفزيون الاسكندرية بالاعمال الجميلة ولحن للمطرب نادر والمطرب المهاجر أحمد حسن.. الاسكندرية هي التي خرجت اثنين من عمالقة العود هما طارق عبد الله (أخي) وحازم شاهين الذان اسسا فرقة إسكندرلا في بداية الالفية الثانية، والسيدة السكندرية معروفة بجبروتها وقوة شخصيتها واعتزازها بنفسها (كل هذا قبل الغزو الوهابي) وتتميز بالجرأة والمبادرة تهتم ايما اهتمام ببيتها واسرتها ونظافة معيشتها ونفسها بالطبع هذه هي الاسكندرية كما عرفتها قبل أن تداس بالأقدام تحت سنابك خيل المقاولين الجشعين .