توفى عراب البطاقة الإسلامية زبغنيو بريجنسكي منذ أسبوع عن عمر ناهز 89 عاما، رحل الرجل غير نادم على دعمه للجماعات الإرهابية والتيارات الراديكالية في أفغانستان عام 1979، ولا يزال السؤال المطروح عليه عام 1996، محفورا على جدران الزمن: ألست نادمًا على دعمك لهذا الكيان التكاملي الإسلامي، فقد أعطيت الأسلحة والنصيحة لمن أصبحوا إرهابيين في المستقبل؟ أتت الإجابة على لسان بريجنسكي: ما الأهم في تاريخ العالم؟ طالبان أم انهيار الإمبراطورية السوفيتية؟ بعض المسلمين المستثارين، أم تحرير وسط أوربا ونهاية الحرب الباردة؟ بريجنسكي كان واحدا من قدامى عرابي السياسة الخارجية الأكثر احتراما وتأثيرا في الولاياتالمتحدةالأمريكية. عمل مستشارا للأمن القومي في إدارة الرئيس الأمريكي جيمي كارتر ما بين أعوام 1977: 1981، كما كان مفكرا جيوسياسيا ومؤلفا للعديد من الكتب وباحثا في مركز الدراسات الاستراتيجية والدولية. بريجنسكي مواليد وارسو - بولاندا، يمكن تصنيفه كأحد أهم أصوات السياسة الخارجية لواشنطن. هذا الرجل هو كلمة السر في كل الأحداث التي تجرى اليوم. فكل أفكاره ونظرياته منذ سبعينيات القرن الماضي جسدت المؤامرة الصهيو أمريكية لخلق شرق أوسط كبير. بريجنسكي أول من دعا لتفكيك النظام الإقليمي العربي وطمس عروبته وإعادة تشكيله على أسس عرقية وطائفية. ففي كتابه «بين جيلين»، الصادر في سبعينيات القرن الماضي، ذلك الكتاب الشيطاني الذي باتت سطوره شبيهة تمامًا بالأحداث الجارية فى المنطقة اليوم، كتب بريجنسكي يقول: الشرق الأوسط مكون من جماعات عِرقية ودينية مختلفة يجمعها إقليم، فسكان مصر ومناطق شرق البحرالمتوسط غيرعرب، أما داخل سوريا فهم عرب. وعلى ذلك فسوف يكون هناك شرق أوسط مكون من جماعات عِرقية ودينية مختلفة، على أساس مبدأ الدولة - الأمة، تتحول إلى كانتونات طائفية وعرقية يجمعها إطار إقليمي - كونفدرالي، وهذا سيسمح للكانتون الإسرائيلي أن يعيش في المنطقة بعد أن تصفى فكرة القومية. تلك كانت نفس الكلمات التي أعاد بريجنسكي تكرارها بعد مرور أربعة عقود في معرض حديثه لمجلة «فورين بوليسي» بنهاية عام 2012، وقد بدأ العرب في جني ثمار أوراق الربيع العربى، حينما قال متباهيًا بالأحداث الدامية لثورات الربيع: كنت أول من دعا إلى تفكيك النظام الإقليمي العربي، وطمس عروبته، وإعادة تشكيله على أسس عرقية وطائفية، إلى آخر كلماته عن الكانتونات. رسمت نظريات بريجنسكي أبعاد وملامح القرن الأمريكي بعد الحرب الباردة، أحجارًا وضعت على لوحة الشطرنج الآوراسي للسيطرة والهيمنة، ومن ثمة ضمان استمرار الولاياتالمتحدة على قمة النظام العالمي الجديد. إذ ذهب بريجنسكي، في كتابة «لوحة الشطرنج العظمى - السيطرة الأمريكية وما سيترتب عليها جيواسترتيجيًا» الصادر عام 1997، إلى السؤال الأكثر جدلًا: هل تستمر سيادة أمريكا على الآوراسيا ؟ وما هي الصياغة الاستراتيجية الشاملة التي يمكن أن تحكم علاقة أمريكا مع الآوراسيا بما يضمن لها بقاء الهيمنة على العالم. بريجنسكي الذي وصف الأوراسيا بلوحة الشطرنج العظمى التى يستمر عليها الصراع للسيطرة على العالم، فهذا الصراع يتضمن الجغرافيا الاستراتيجية التى هي الإدارة الاستراتيجية للمصالح الجيوبوليتية، وبالتالى إذا تمكنت الولاياتالمتحدة من إدارة هذه المصالح على رقعة الآرواسيا تستطيع تأمين بقائها كقطب أوحد. صال بريجنسكي وجال داخل سطور كتابه لتحديد اللاعبين الاستراتيجيين على رقعة الآوراسيا، والذين يمكن لهم التأثير في اللاعبين الجيوبوليتيين، ومن ثمه التأثير في المصالح الاستراتيجية للولايات المتحدة، وقد توقع بريجنسكي إن تحالف لاعبي الشرق الآوراسي ( روسيا - الصين) هو السيناريو الوحيد الذي لا يقلل من حجم الهيمنة الأمريكية على رقعة الآوراسيا فحسب، بل يخرجها من حلبة السباق تمامًا، وقد استبعد الرجل إمكانية حدوث هذا السيناريو، ولم يكن ليتوقع وهو على فراش الموت، أنه سينظر بحسرة شديدة على التحالف الاستراتيجي الشامل الذي تم إبرامه بين لاعبي الشرق الآوراسي منذ العام 2014. ووفقًا لمقولة الجيوسياسي البريطاني هالفرد ماكيندر: « إن من يحكم أوربا الشرقية يسيطر على الأرض المركزية - ومن يحكم الأرض المركزية يسيطر على جزيرة العالم - ومن يحكم جزيرة العالم يسيطر على العالم» . فقد بدت طموحات بريجنسكي أكبر من ماكيندر، حينما منح الجغرافيا السياسية بعدًا أعمق عام 1997 قائلًا: « إن قضية الجغرافيا السياسية لم تعد متعلقة بهذا الجزء الجغرافي أو ذاك من الأوراسيا، والذي يشكل نقطة انطلاق للسيطرة على القارة، أو أن تكون قوة الأرض أهم من قوة البحر. فالجغرافيا السياسية انتقلت من البعد الإقليمي إلى البعد الدولي مع جعل السيطرة على القارة الآوراسية كلها أساسًا للسيطرة على العالم». وهي نظرية عكس نظرة الجيوسياسي المصري - جمال حمدان- حول أهمية قوة الأرض، وقوة البحر، والتي عبر عنها في كتابه «استراتيجية الاستعمار والتحرير» أن ما من قوة بر، وقوة بحر، فالكل سواء, هناك فقط قوى نووية، وقوى تقليدية. وقد رأى حمدان، أن الدول غير النووية فقط هى التى سيكون عليها أن تفكر بصيغ الاستراتيجية القديمة.. تم اغتيال جمال حمدان منذ أعوام، وتوفي زبغنيو بريجنسكي منذ أسبوع، ولا يزال العالم بين مطرقة نظرية بريجنسكي وسندان نظرة حمدان.. من سيحسم الصراع على رقعة الآوراسيا؟ كاتب جيو سياسي