يثير تنامي الازمات الدولية والإقليمية التساؤل عن مستقبل الصراع الدائر بين الولاياتالمتحدةالأمريكيةوروسيا وعن دور الدول الاقليمية في هذه الصراعات. دفع هذا الأمر بعض الخبراء إلى الحديث عن إستراتيجية روسية جديدة في العالم خصوصاً بعد مرور سنوات على موقفها الصامد في سورية وزيارة السيسي إلى موسكو. تحدد وصية بطرس الأكبر الكثير من عوامل السياسة الروسية في الشرق الاوسط: "لا تنسوا العمل للسيطرة على البحر الأسود والزحف إلى الجنوب للاستيلاء على القسطنطينية لأن من يحكمها يحكم العالم". رافقت هذه الوصية جميع القادة الروس وأصبحت جزءا أساسيا من الاستراتيجية الخارجية، وكان هذا الاتجاه جليا في خطاب ستالين عقب انتهاء الحرب العالمية الثانية عند ما قال: "إذا كانت الولاياتالمتحدة الأميركية تطمح لقيادة العالم أو أن يكون العالم على شاكلة الولاياتالمتحدة فهذا لن نسمح به" (ديمتري مولونكوف، ستالين النهاية، ص 254). بناءً على ما تقدّم، نجد أنّ الاستراتيجية الروسية الحالية المتمثلة في مواجهة الهيمنة الأميركية هي امتداد للسياسة القيصرية والسوفييتية، ولكن من الطبيعي أن تتأثر هذه الاستراتيجية بعوامل المدّ والجزر الجيوسياسية، الاقتصادية والاجتماعية والتحولات الداخلية والخارجية قتقوى حينا، وتضعف حينا آخر، وهذا ما مرّت به السياسة الروسية الخارجية خصوصاً بعد انهيار الاتحاد السوفييتي. إذًا طبقا لوصية بطرس الأكبر وعملا بخطاب ستالين المذكورين أعلاه، يُثار السؤال التالي؛ هل بوتين يُريد فعلا السيطرة على العالم أم أنه يُريد منع الولاياتالمتحدة من السيطرة عليه؟ إن الإجابة عن هذا السؤال ليست بالمهمة السهلة ويستغرق ذلك وقتا، لكن من المفيد القول إنّ تحقيق أحد الهدفين الواردين في السؤال أعلاه يستلزم اتباع إحدى الاستراتيجيتين التاليتين: اما استراتيجية المواجهة التي تخلو من المسايرة واما استراتيجية المسايرة التي لا تخلو من المواجهة. إن روسيا لم تُسلّم ولم تستسلم لواقع نظام القطب الواحد، بل أخذت على عاتقها مواجهة الهيمنة الأميركية من خلال خطوات عدة هادفة إلى إعادة توزيع السلطة بشكل متساوٍ، أي إلى «توازن للقوى» كما أطلق عليه مورغينتو هانس في مؤلفه «الصراع من أجل القوة والسلام». في هذا الخصوص يرى مورغينتو أنّ توزيع السلطة بشكل متساو وتأمين توازن للقوى هو «الطريق الوحيد لتحقيق السلام العالمي». هذا ما أكده فلاديمير بوتين في مقالته، «روسيا والعالم المتغير»، عند ما تطرق إلى «مراعاة المبادئ الرئيسة للقانون الدولي» في معالجة الأزمات الدولية، (موسكوفسكيي نوفوستي، 2012). إذًا من هذا المنطلق وعملا أيضا بمبدأ المصالح المشتركة للقوى الكبرى، نجد أن روسيا لا تسعى إلى الاستئثار بحكم العالم، بل أنها لا تملك الأوراق للسيطرة عليه، لذلك تسعى موسكو إلى أن تكون «بيضة القبان» في كل ملفات العالم من خلال اتباع إستراتيجية المسايرة التي لا تخلو من المواجهة الناعمة في علاقتها مع الولاياتالمتحدة إن دخول الأزمة الأوكرانية على خط التجاذب والتصارع بين الطرفين يعيد إلى الأذهان مشاهد الحرب الباردة ولكن مع فارق في مكانة كل منهما؛ روسيا التي تستعيد قوتها العالمية وأمريكا التي تتراجع قوتها في العالم. تختلف أيضا قواعد الاشتباك المبنية في أغلبها على ركائز استراتيجية غير لاغية لتلك الأيدولوجية. تشعر موسكو بالتهديد من التوغل الغربي في أوكرانيا نظرا لأهميتها الاستراتيجية،الجيوسياسية، الإقتصادية والثقافية. تستمر الولاياتالمتحدةالامريكية في مشروع محاصرة روسيا، خصوصا في هذه المرحلة التي تشهد صراعا محتدما بينهما في مجلس الأمن وخارجه على سورية وفي ظل إنهيار الأحادية الأمريكية وعودة روسيا بقوة إلى الساحة الدولية. شبّه بريجنسكي في كتابه (رقعة الشطرنج الكبرى، 1998) المنطقة برقعة الشطرنج واعتبر ان أي صراع جيوسياسي في أوروبا سيكون كل من الناتو، روسيا، الإتحاد الأوروبي والولاياتالمتحدةالأمريكية، أحجارا أساسية فيه. من هذا المنطلق تعتبر روسيا نفسها مهددة من حلف الناتو الذي أُسس لضمان وجود النفوذ الروسي خارج القارة الاوروبية، حسب وصف الأمين العام الأول لحلف الأطلسي اللورد إيسماي 1989 في معرض حديثه عن أهداف الناتو؛ « لإبقاء السوفييت خارجا».وفقا للنظرة الروسية، لم يقتصر التهديد الأمريكي لروسيا فقط على حلف الاطلسي بل تعداه إلى مشروع التكامل الاوروبي، منظومة الردع الصاروخي، الإتفاقيات التجارية مع الدول الأوروبية المستقلة عن الاتحاد السوفييتي، دعم المنظمات غير الحكومية في " نضالها " من أجل حقوق الإنسان ومؤخرا الثورة البرتقالية في أوكرانيا في عام 2004. إذًا، تُعتبر الساحة الأوكرانية من أهم ساحات المواجهة الروسية – الغربية. في المقابل، تشعر الولاياتالمتحدةالأمريكية بالتهديد من التقارب الألماني الروسي وتعتبر المشروع الأوراسي الذي تتبناه موسكو بمثابة عودة النفوذ الروسي في أوروبا من البوابة الأوكرانية، لذلك وجب محاربته لإضعافها طبقا لنظرية بريجنسكي الذي يعتبر ان روسيا بعيدة عن أوروبا ومن دون أوكرانيا ستصبح دولة أكثر "أسينة " (ذات طابع آسيوي)، ولكنها وفي حال توافر علاقة قوية مع أوروبا ستصبح روسيا " قوة إمبريالية عظمى ". إن العافية التي تعيشها اليوم روسيا بعد ما تجاوزت مرحلة الخطر الاقتصادي والسياسي سمحت لها بأن تنتقل وبسرعة من موقع التأثير الضعيف إلى موقع التأثير القوي في ملفات العالم، لن تسمح بمحاصرتها وبسحب أوكرانيا من دائرة نفوذها السياسي وستمنع قيام أية حكومة معادية لها في كييف. في هذا السياق، إن" معركة " اوكرانيا بالنسبة إلى بوتين، تعادل أو تزيد عن أهمية معركة ستالينغراد بالنسبة إلى ستالين. في ضوء ما تقدم، إنّ العلاقات الروسية الأميركية لن تشهد بوادر حلول في القريب العاجل ولن تشهد مواجهة مباشرة بينهما، ستبقى المنافسة، التصادم، الضغط المُتبادل وانعدام الثقة من جهة، الالتقاء وتقاسم المصالح من جهة ثانية، ميزة هذه العلاقة. من المؤكد ان هذه المواجهة ستتبلور أكثر عبر سورية، مصر، لبنان، "إسرائيل"، فلسطين، إيران، أفريقيا وفنزويلا ويبقى رسم حدود النفوذ الدولي هو الهدف.