لم أسألهُ يوماً عن نشأته..رغم حديثنا المتكرر والمستفيض عن مشروع إحياء مكتبة الأسكندرية، وعن مكتبة الأسكندرية القديمة وعن موضوعات أخري كثيرة كان يشرفني و يثري بها تحقيقاتي الصحفية...كنت واثقة أنه ينتمي لطبقة الأثرياء أو من سلالة الأمراء. ..فقد كان هدوءه وسمو أخلاقة وحواره وإلتزامه الشديد بمواعيدة ووعوده سمات قلما عثرت عليها في شخص واحد ولاسيما أنه أحد أعلام مصر الذين تركوا بصماتهم نوراً علي جدار الوطن ..إن مانعرفه جميعاً عنه..ليس إلا نقطة في بحره...فهو إبن أحد أبناء الطبقة الوسطي التي إتخذت من العلم مملكة وكانوا ملوكاً وحراساً لها .... عرفنا علماءاً ومتعلمين كُثر ولم نحظي بتجربةٍ أثري من تجربته ..تلك التي جمع فيها بين أسرة مثقفة ناجحة جمع الحب والإحترام بين أفرادها ، وعلم نافع وعمل سوف يُخلد بالتاريخ... حياة سّٙجٙل أحداثاً منها حفل تأبينه في مكتبة الأسكندرية ، حضرهاحشد من صفوة أحباؤة وأهله وتلامذته .... كان والده دكتور "عبد الحميد العبادي" ينتمي إلي أسرة متوسطة ترجع جذورها إلي المغرب وقد ساعد شقيقاه والده في نفقات التعليم حتي يستكمل دراسته الجامعية.. ولاسيما أنه كان متميزا ومحباً للعلم وقد عُيِن أول عميد لكلية الآداب جامعة الأسكندرية (جامعة الملك فاروق الاول سابقاً)والتي تم إفتتاحها في أكتوبر 1942 وكان الدكتور طه حسين أول رئيساً لها.. قارورة عطر ..كانت بيئته ..تلك التي عاش فيها دكتور "مصطفي العبادي" حصل منها علي التربيةو العلم والقراءة والقدوة..فكيف له أن.. لايؤثرنا بأثير عطره! جمع والده دكتور" عبد الحميد العبادي " الذي كان أستاذاً للتاريخ الإسلامي _ الكتب من أنحاء العالم..وإكتظت مكتبته بكتب دراسات التاريخ الإسلامي وابن خلدون والكثير من نفائس الكتب ودواوين الشعر...وكان يُحفز أبناؤه علي القراءة بقوله( لخص كتاب في صفحة واحده وسوف أمنحك ريال)...وقد أثرت مكتبته حياة عالمنا الجليل الثقافية وكذلك أثرت في أشقاؤه وشقيقاته الثماني.. ورسما النيل في القاهرة والبحر في الأسكندرية ملامح إنسانية مميزة في شخصية العبادي..فكانت السباحة ورياضة المشي والقراءة أهم هواياته... ...وكان جده لوالدته يعمل بالتجاره ثم إضطر للعمل موظفاً في مصلحة البريد. كانت زوجتهُ الدكتورة "عزة كرارة" نسخة أصلية منه بإبتسامتها الدافئة وكرم ضيافتها..تُؤثرك بمودتها بعد تقديم قطتها الجميلة "كليو"....جمعتها الحياة بزوجها الدكتور "مصطفي العبادي" كمنحة تشد عضده في طريق العلم و المعرفة ، ليُنجِز ماأتمه من دراسات وأبحاث وإحياء لمشروع مكتبة الأسكندرية القديمة وليشيدا معا تمثالاً للوفاء والمحبة الخالصة.. أحب عالمنا الجليل زوجته وزميلته ورفيقة دربه دكتورة "عزة كرارة" التي تخرجت من ذات الكلية قسم اللغة الإنجليزية والتي كانت قد سبقته في بعثه علمية إلي جامعةكامبردج بإنجلترا فكانت شمسه التي لاتغيب حتي إنتقلت في 2015 إلي جوار ربها ...ولحقها في13فبراير2017 ،رحم الله العظماء الذين أخلصوالأوطانهم. قرر دكتور مصطفي العبادي منذ بداية الطريق أن لايتورط في أي إنتماء سياسي وأن يُركز علي الحياة الأكاديمية دون إنجذاب إلي بريق المناصب السياسية والإدارية.. وكان له إسلوبه المُميز حيث وقف في دراسته للتاريخ موقفاً إنسانياً وإلتزم بتحكيم العقل المطلق وتنحية العاطفة ومشاعر الإنتماء.. كما إجتهد في أن يمارس هذا الموقف في سلوكياته وفي مواجهة حياته اليومية...هكذا قال في سيرته الذاتية التي نشرتها جمعية الآثار بالأسكندرية عقب رحيلة .... وقد أرسي قاعده أساسية في التكامل المعرفي مُمثلة في ربط الماضي بالحاضر...ومنذ مرحلة الدراسة تخصص في تاريخ العصر اليوناني والروماني الذي يقع في مرحلة متأخرة من مراحل التاريخ القديم التي جاءت في أعقاب الحضارتين المصرية والبابلية وإستوعبت كثيراً من إنجازاتها. أضافت إليها إبداعات وإمتدت إلي بدايات العصور الوسطي...ومن ثم كان نهجه في التعامل مع العلم.. .تكامل وربط..إستفاده وإفاده.. العبادي أحد أعلام مصر النابهين.ورغم ذلك مانجده جديراً بالذكر...كونه كان أباً مميزاً يحكي إبنه "دكتور عمر " أستاذ علوم الحاسب الآلي في جامعة كاليفورنيا سانتا باربرا ،حيث يعيش وأسرته... وإبنته الدكتورة "مُهجة " الطبيبةفي معهد ومستشفي باستير للطب البديل بمدينة سياتل بولاية واشنطن .وتبكيه زميلته و رفيقة دربة دكتورة مني حجاج الأستاذ بقسم الآثار والدراسات اليونانية و الرومانية في كلية الآداب بجامعة الأسكندرية، رئيسة جمعية الآثار بالأسكندرية. الدكتور العبادي في شهادته عن تدشين مكتبة الأسكندرية سجل في سيرته الذاتية قائلاً... "في 12 فبراير 1990 عقد إجتماع أسوان الشهير الذي أسفر عن إعلان أسوان ويتضمن الدعوة لإحياء مكتبة الأسكندرية ومشاركة العالم كله في هذا المشروع الحضاري المهم .حضر هذا الإجتماع ملوك ورؤساء من مختلف دول العالم فضلاً عن مدير اليونسكو وقتها فيديريكومايور. ثم جاءت حرب العراق 1990 وكانت الأوضاع في المنطقة غير مستقرة،فمرت السنوات ثم بدأت اللجنة عملها بجدية من جديد وتولي د.محسن زهران إدارة المشروع حتي جاء الدكتور إسماعيل سراج الدين ليتولي إدارة المكتبة في 2001 ،وهو إنسان مثقف ويتمتع بقبول دولي كبير، وله شعبية في الخارج وإتصالات قوية، وإستطاع سراج الدين أن يعطي واجهة براقة للمكتبة ".... لقد جعل الدكتور مصطفي العبادي من مشروع إحياء مكتبة الأسكندرية مُبتغاً له منذ عام 1968 عندما بدأ بمقال عن مكتبة الأسكندرية القديمة في ندوة بكمبردج وهو طالب دراسات عليا وتلا ذلك ندوة بهيئة تدريس جامعة الأسكندرية بعد إنهائها وعودته ثم لقاءات وحوارات وطريق سار فيه لتحقيق حلم لم يغب عنه لحظه.. لقد رأي د. العبادي رحمه الله أن دور مكتبة الأسكندرية يكمن في محورين رئيسيين هما نقل العلوم والمعارف المعاصرة إلي مصر والوطن العربي...والثاني وضع مصر علي الشبكة الرقمية....وأكد مراراً علي أن الوجود الحقيقي لمكتبة الأسكندرية يتمثل في فاعليتها في المحيط الثقافي الدولي في كافة المجالات....وضرورة وجود مشاريع وخطط زمنية وبرامج بحثيه حقيقية لأن البناء المؤسسي الحقيقي لايتطلب الخروج بصورة دائمة بمشاريع الهدف منها ضجة إعلامية.حتي يمكن إحداث مصداقية لأي مؤسسة جديدة وحتي تكون ذات مصداقية علي المستوي المحلي والإقليمي والدولي. في عام 2002 قال د.مصطفي العبادي رحمه الله في تحقيق صحفي أجريته معه تحت عنوان(حتي لاتصبح مكتبة الأسكندرية مجرد خزانه للكتب). "لاحظت كثير من دول إفريقيا وهم يتطلعون إلى مصر بإعتبارها رائدة في حركة التطور والنهضة فينبغي علي المكتبة أن تهتم بهذا الجانب من صلاتنا الوثيقة بقارة إفريقيا وخاصة من الناحية التاريخية والتراثية والعلمية...وأضاف. .... كنت في جنوب إفريقيا في شهر إبريل الماضي للمشاركة في ندوة بمدينة كيب تلون تحت عنوان ( الأسكندرية في كيب تاون). والشيئ الظريف أن وسائل الإعلام في كيب تاون صورت علي إعلاناتها عن الندوة صورة مكتبة الأسكندرية القديمة وكتب فوقها " نهضة إفريقية" وأضاف العبادي ...هم ينظرون إلي إفتتاح مكتبة الأسكندرية علي إنه حدث محوري في نهضة إفريقيا وأري إنه لايجب أن تفقد تلك الصلة بل يجب عليها تدعيمها توثيقها عن طريق هذه المكتبة "... رسائل أرسلها عالمنا الجليل لنا ولازال بسيرته يعلمنا إياها ويضع لنا مبادئاً ومثلاً وبوصله لمن يريد !!