تعتبر مهنة التنجيد من المهن الفنية القديمة في مصر لما لها من وظيفة هامة تتعلق بالراحة واستقبال الضيوف داخل البيوت المصرية من جهة وما تضيفه من أناقة بسبب الممارسات الفنية التي يمارسها فنانوها وصناعها بحسب اختلاف قدراتهم الإبداعية وما يضيفوه من ابتكار وذوق رفيع يتعلق بالأثاث وعالمه الرحب وهو تجدد فني لا ينقطع . ارتبطت ممارسة تلك الحرفة منذ القدم لارتباطها بحياة الإنسان وأسلوب معيشته في منزله ، كما يتوقف ثراءها ومظهرها الفني على الطبقة الاجتماعية التي ينتمي إليها الفرد وعلى قدراته المادية والمعرفية والتي تمكن الصانع من إخراج عمله الفني المرتبط بالتنجيد بشكل جميل ، وقد ازدهر هذا الفن في العهد المملوكي بسبب الممارسات الجمالية والمعمارية التي أبتكرها المماليك في داخل وخارج البيوت المملوكية وصولا إلى ازدهاره في عهد محمد علي الذي اهتم في عصره بإحياء الآداب والفنون لتأثره بعصر النهضة في أوروبا واهتمامه في مصر بإنشاء المدارس ومعاهد الهندسة ثم اهتمامه أيضا بتطوير أصحاب المهن والحرف المصرية في شتى المجالات بعد أن أخذهم العثمانيون إلى الأستانة منذ بداية الغزو العثماني لمصر والعالم العربي ، وقد شجع وجود الجاليات الأجنبية المتيمة بالفنون في مصر إلى جانب حركات التنوير والبعثات والوفود المصرية التي أوفدها محمد علي باشا إلى الخارج إلى انتقال الفنون الأوروبية بأذواقها ومدارسها الفنية المختلفة إلى مصر ومنها فن الأثاث وتنجيد الصالونات وقطع الأثاث داخل القصور الملكية ثم ازدهارها عبر القصور الخديوية والقنصليات الأجنبية ثم بيوت الطبقات الراقية والموسرين من الطبقات الاجتماعية المتوسطة حتى ازدهر فن التنجيد في العصر الحديث ودخلت أعماله سائر البيوت في المدن والقرى المصرية . ينقسم فن التنجيد إلى قسمين رئيسيين في مصر الأول هو المنجد البلدي "الشعبي " وتطور إلى مصطلح المنجد العربي ، وهو الفن الأقدم لأنه كان منتشرا عند معظم الطبقات الاجتماعية ومنها الطبقات الدنيا في مصر التي كانت تستخدم لراحتها واستقبال ضيوفها الحصير الشعبي والمنسوجات القطنية وغيرها ، إلى أن جاء الوقت الذي انتشر فيه فن التنجيد وارتبط بصناعة فرش غرف النوم وتنجيد المجالس العربية والكنب البلدي باستخدام البفت والدمور والقطن في الكسوة والتنجيد ، والثاني هو المنجد الأفرنجي وقد سمي بهذا الاسم لارتباطه بالطبقات الراقية من جهة ومحاكاة فنانيه ونقلهم للأذواق الأوروبية من جهة أخرى حتى اصطلح على تسميته بهذا الاسم ، وظل كلا من الفننين منتشرين في مصر إلى وقتنا هذا لدرجة اختلاط كلا منهما بالأخر في إنتاج الأعمال . لقد حقق المنجد الأفرنجي شهرة كبيرة وانتشر في المدن والقرى المصرية لقدرة فنانيه دائما على التجدد ونقل وترجمة الأذواق والموديلات العالمية بمسمياتها المختلفة في مصر حتى لا يكاد يخلو منزلا مصريا من تلك الأعمال ، كما تعتبر محافظة دمياط من أكثر المحافظات شهرة في مصر والعالم في صناعة الأثاث بسبب تفوقها وتفوق فناني التنجيد الأفرنجي بها لما يقدموه من أروع الأعمال وبخاصة في تنجيد كراسي السفرة والصالونات والأنتريهات وبعض القطع الخاصة بغرف النوم حتى انتشرت المهنة في الكثير من المحافظات المصرية ، وتعتبر محافظة الشرقية من أكبر المحافظات التي ينتشر بها فناني التنجيد الأفرنجي وقد التقينا بأحدهم وهو الحاج / صلاح الجناني بمدينة منيا القمح الذي يعتبر من أشهر المنجدين بالمدينة وسألناه أثناء ممارسة عماله لتلك الحرفة عن تاريخ ارتباطه بها فيقول الحاج صلاح : أحببت تلك المهنة وأنا في سن العاشرة عن طريق ابن عمي محمود الجناني الذي مارس المهنة بمدينة منيا القمح منذ فترة طويلة وعن طريقه تعلم الكثير من الصبية الصغار حتى أصبحوا من أجود المنجدين في قرى مدينة منيا القمح ، وأما عني فقد ظللت معه لفترة طويلة حتى تطورت بها وأصبح لي محلا كبيرا مشهورا يحتوي على كل المستلزمات المتعلقة بالمهنة من أقمشة وإسفنج وشرائط وغيرها لتسهيل المهمة على الزبائن مع وجود الكتالوجات التي تحتوي على الكثير من الموديلات المختلفة ومنها العربي والأسباني والأمريكي والفرنسي وغيرها من الموديلات التي يرغبها الزبائن وأكثرهم من العرائس ، وبعد بلوغي سن الخمسين الآن يقوم ابني المهندس ياسر الجناني بالإشراف على إدارة المحل والذهاب إلى الزبائن بالمدينة والقرى التابعة لها للاتفاق ، وقد التقينا أيضا بأحد الصناع وهو المعلم فتحي الجناني وعمره 35 عام وسألناه وهو يمارس عمله عن أدوات المهنة فأجاب بأنه بدأ العمل بها مع أقاربه في سن صغير حتى تفوق في أدائها ويقول أن أهم المواد المستعملة في عملية التنجيد الأفرنجي هو أن نستلم طاقم الصالون بشكل لائق وعادة ما يكون قد تم تشطيبه من جانب الأسترجي ثم نتفق مع الزبون على الموديل المطلوب حتى نوفر له الخامات حسب طلبه وحسب قدراته في اختيار الخامات ، و عادة ما يشتري الزبون قماش التنجيد بنفسه ثم نبدأ في شد سيور التنجيد وهي عبارة عن نسيج من خيوط الكتان الخشنة وعرضها يبدأ من 10:6 سم حسب نوع التنجيد ونبدأ في شدها أسفل المقاعد بمسامير يتم شدها بإحكام ، ثم نقوم بتثبيت السوست المعدنية ويراعى أن تكون جودتها عالية ، ثم نقوم بوضع الحشوة وعادة ما تكون من خامة تسمى الكارينا وهي عبارة شعيرات من سعف النخيل الذي نفضله على أنواع الحشوات الأخرى لنظافته وعدم استقباله للحشرات ، ثم نستخدم الحبال ونقوم بعملية الخياطة والشد وبعدها تأتي عملية وضع الطبقة الأخيرة سواء من القطن أو الإسفنج فوق الحشوة وعندها نكون قد صممنا الشكل المطلوب فنقوم بشد القماش الخارجي عن طريق الدبابيس التي يتم رصها وشدها مع الخشب بشكل جمالي فننهي بذلك القطعة بعد الأخرى حتى يكتمل الصالون ، ثم نقوم باستخدام مسدس الشمع لوضع الشرائط أو الكلفة حتى نتمكن بوضعها من إخفاء مكان الدبابيس مما يزيد الطقم جمالا ، التقينا أيضا بالأسطى تامر عربي وشهرته كمال وعمره 29 عام من منيا القمح فيقول بدأت ممارسة المهنة وعمري 10 سنوات حتى تطورت بها لدرجة كبيرة عند الحاج صلاح ونحن في عملنا نمارس أسلوبين أسلوب المنجد العربي من خلال استخدامنا لبعض الأدوات مثل ماكينة الخياطة والخيط بأنواعه والإبرة في بدايات العمل وتجهيز الشغل ، ثم نستخدم أسلوب المنجد الأفرنجي في اللمسات الفنية وموديل الطقم في التشطيب النهائي وخلال عمليات التنجيد والدق ، ثم يقول لقد تطورت المهنة وتطورت الأدوات ، وفى صناعة الصالونات نعتمد على ما يسمى بالتنجيد الثابت ونستخدمه لإعطاء قطعة الأثاث الشكل المرغوب فيه مع توفير الراحة لمن سيجلس عليها لاستخدامنا للسيور الجلدية والكتانية والكارينا وهذا العمل ينقسم إلى نوعين نوع يتم تنجيده على هياكل خشبية منفصلة كما في الكراسي والمقاعد وغالبا يكون الإطار الخشبي ظاهرا ، ونوع آخر ثابت وعادة ما نقوم بتغليفه بالكامل ولا يظهر منه الإطار الخشبي ونعتمد فيه على إظهار الجمال من خلال التنجيد ، التقينا أيضا بالأسطى سيد إبراهيم أبو فوده 19 عام وعن مارسته لتلك المهنة يقول أنه بدأ يعتمد عليه المعلم في بعض التشطيبات النهائية أو قيامه بإضافة بعض القطع الخشبية لمتانة الصالون والتأكيد على صلاحية النجارة به ويقوم أيضا بوضع السوست والكارينا ، وعن الأدوات التي يستخدمها المنجد الأفرنجي يقول الأسطى سيد نحن نستخدم أدوات هامة لنا وهي المطرقة ، والعتلة لخلع المسامير ومسلة لصنع الحشوة ، والإبرة ثم مشط الشد والمقص وماكينة الخياطة ومسدس الدبابيس ومسدس الشمع الذي يستخدم في لصق الشرائط ، وضمن مجموعة العمل تلك كان لابد وكما يقول الحاج صلاح الجناني من وجود أحد الصبية الصغار ليقوم ببعض الأعمال الخفيفة استعدادا لتعلمه للمهنة ومن هؤلاء كان الصبي محمد عبد الفتاح وعمره 13 عام ويقوم بفك الكارينا لتصبح هشة وسهلة من أجل الحشو وأيضا بتذريتها من الأتربة والعوالق وتقديمها بجوار الصنايعية لاستخدامها عند اللزوم كما يقوم أيضا بمدهم بما يطلبونه من أدوات إضافة إلى المساعدة في نقل القطع وتنظيف المكان حتى يأتي اليوم الذي يصبح فيه أسطى مثلهم . ومع التقدم الرهيب في عالم الأثاث وفنون التنجيد الإفرنجية تظل مهنة المنجد الأفرنجي مزدهرة ومنتشرة في قرانا ومدننا المصرية وسوف تظل بمثل هؤلاء الفنانون والمبدعون والحرفيون المصريون باقية إلى وقت طويل .