أشم رائحته قبل أن يأتي.. أشعر به يتجول خلسة بين البيوت وتحت جنح الظلام مكشرا عن أنيابه.. لينقض فجأة فيختطف عزيزا أو نبيلا فهو دائما كما اعتدت يختار وينتقي, ورغم أنه حق وقدر وإرادة إلهية ولا راد لقضائه سبحانه إلا أن الفقد والفراق يدمي القلوب دائما ويترك فيها آثار لوعة الفراق والفراق دائما صعب وخانق خصوصا عندما يكون لمن اعتدنا وجودهم في الصف الأول من طابور حماة القيم النبيلة التي تندثر يوميا من حياتنا بشكل محزن ودميم. هذا الشعور بالفقد ألفته في السنوات الماضية فلقد انتزع الموت من صدري ومن كياني نبلاء وأصلاء واعزاء وأوفياء حتي لقد أصبحت الدنيا ماسخة الطعم بدونهم وأصبحت أشعر بالوحدة والغربة كل يوم مع رحيل الاصدقاء. لكنني هذه المرة أحسست أن جزءًا مني قد انخلع أو قل إن جدارا من بناء تكويني قد انهدم. فما أن أتاني خبر رحيل عمنا عبد العظيم مناف حتي أصابت بالخرس والذهول. أحقا؟؟!! هل حدث فعلا؟؟!! هل رحل؟؟ رحت اتصل بهذا وذاك متمنيا ان يكذب أحدهم الخبر, لكن للأسف كانت هي الحقيقة المريرة... وجدتني أسقط في بئر صمت عميقة , ولم استطع أن أكتب كلمة واحدة أو حتي أعبر عن أساى أو حزني . حالة من الفقد اعتصرت القلب ووجدتني استجدي البكاء استجداء لكن الدموع تحجرت ليحل محلها ألم يلد ألما تتوالد منه آلام. قلت للنفس اتساءً وتعزية لقد استراح من الألم وخفف الله عنه أيام مرضه... لكن ما قلت للنفس لم يخفف ألما ولم يشف جرحًا.. أحسست بأن ما أقولة مجرد مسكن منتهي الصلاحية لا يؤثر فيما اشعر به من نار الفقد. سرحت وفتحت بوابة الذكريات علي مصراعيها وجلست أتذكر خلافاتنا وعراكنا واتفاقاتنا وتصادماتنا وايامنا المرة والحلوة عبر اكثر من ثلاثين عاما, تذكرت الكثير والكثير لكن الشريط كان يتوقف كل مرة عند لقطة واحده تتكرر طوال الرحلة الكرم والالتزام بالواجب فلقد كان يرحمه الله يعرف كأي فلاح مصري أصيل قدر الناس ويعرف أن من حقهم علية أن يقوم بواجبة إن ألمت به مصيبه أو كارثة أو قضاء ومهما كان الاختلاف تجده في أول الصفوف للمواساة ربما لا تجده كثيرا في الأفراح, لكنه لابد أن يكون أول من يصل عندك اذا مرضت او أصابك مكروه وتجده أول المعزين ان رحل أحد من ناسك أو من أهلك كان يتصل بي ليذكرني بضرورة تعزية فلان أو مواساة علان أو الذهاب للمستشفي لأن فلانًا مريض.. نعم لقد كان قوميا عروبيا ناصريا متشددا في زمن صعب, ولعبت مؤسسته الصحفية عبر مجلة الموقف العربي وجريدة صوت العرب دورا كبيرا منذ السبعينيات وحتي بداية القرن الواحد والعشرين دورا مهما في الدفاع عن العروبة وأسهمت في رفد الحياة السياسية والصحفية بكوادر ونجوم الصحافة والسياسة وقد نختلف علي أهمية هذا الدور أو نتفق. لكن كل من عرفوا الرجل لن يختلفوا أبدا علي أنه كان «أبو الواجب» بلا منازع وأبو المواقف النبيلة في كل مصيبة تمر بأحد الأصدقاء أو الزملاء تذكرت هذا كله وأنا في سرادق عزائه يوم السبت الماضي عندما أتي الجميع يعزون انفسهم في فقده أحسست أن روحه ترفرف علي المكان ممتنة وسعيدة وقلت له: طب نفسا يا أبو الواجب فالواجب لاينساه الأصلاء, طب روحا فالوطن أيضا لا ينسي ماقام به المخلصون.