"إنني لا أستطيع؛ أنْ أستقرَّ على رأيٍّ فيهم؛ ولكنْ من المؤكد؛ أنهم شياطين شياطين"! فكلما؛ مررتُ بواحدٍ منهم؛ وما أكثرهم؛ أتفاجأ به؛ وهو يُحوْقِل، ويُسبِّح، ويُهلِّل، ويُكَبِّر؛ لغير وجه الله تعالى! فذات مرَّةٍ؛ ناداني أحدهم؛ وطلب مني؛ أن أصبَّ الماء عليه من طِست ماء؛ فظننتُ أنه يريد الوضوء؛ فإذا به؛ يقول لي: "أمس؛ عابثتُ؛ وفاعصتُ؛ ورافثتُ؛ فصُبَّ الماء، وادلقه بغزارةٍ؛ فأنا في حنينٍ إلى المعاودة مع قِطعاني من الحِسان"! والمفارقة؛ أنَّ الناس كانت تقف مشدوهةً بين يديه؛ لا؛ بل بين رِجليه؛ لرفع المياه التي صببتها عليه؛ للتبرُّكِ بها؛ وجعلها طَهورهم في شُربهم وطعامهم؛ وأثناء عبادتهم؛ كرُقيةٍ وبَركة! وفي موقفٍ آخر؛ سمعتُ أحدهم يقول؛ مِن تحت خِبائه المضروب في وسط المدينة: "أيها الرجل؛ أبْقِ على نفسك من العين"! فعرفتُ أنه من أهل الحكمة اللدنية؛ فقبَّلت يده؛ وخاطبته بوجلٍ وخشية قائلاً: سيدي الجليل؛ زدني من الحكمة الإلهية! فقال؛ بصوتٍ مَبحوحٍ مَجروحٍ مَقروحٍ: "لا تُصَلِّ مع البهائم، ولا تُزَكِّ على الحمائم، ولا تحج إلى العمائم"! فلم أفهم من كلامه ما أراده وتوخّاه؛ لكنني بكيتُ من شدة التأثُّر؛ فنفحته كل ما معي من جنيهاتٍ؛ وما أقلَّها بالنسبة لمكانته وعلو شأنه الاستشرافي النوراني! إلا أنني؛ فوجئتُ بمَن يستوقفني؛ وهو يعطيني قطيعاً من البهائم؛ وسِرباً من الحَمام، ومجموعةً من أغطية الرأس قائلاً لي: اذهب بها إلى سيدك؛ فأعطِها له؛ ثم انصرف؛ ففرحتُ أشد الفرح! ثُمَّ اختفى فجأةً؛ كما ظهر فجأةً؛ وإذا بي بعد ثوانٍ معدودات؛ بين يدي سيدي الحكيم؛ فأخذها مني؛ لِأفاجأ بالشرطة؛ تدهم المكان؛ وتقبض على الجميع؛ فعرفتُ أنها عِصابةٌ لسرقة الناس؛ بِسَمْتِ الزهد؛ وقلنسوةِ التصوف؛ وتقشف الأدعياء! فعرفتُ؛ أنها ثُلَّةُ الأشقياء؛ تاجرتْ بالباطل؛ وها هي ذي؛ تتاجر بالحق؛ فبئس تِجارتها تلك الخاسرة؛ إنْ بالحق؛ وإنْ بالباطل! وفي يومٍ ما؛ وأثناء محاولتي صعود القطار؛ أمسك بيدي أحدهم؛ وهو يقول: "مكانك ليس هنا؛ أنت مسافرٌ إلى المجهول؛ فدع ذا؛ وعدِّ السفرَ إلى المعروف؛ ثُمَّ أعطاني صُرَّةً؛ ففضضتها؛ فوجدتُ فيها ورقةً عاطرةً فيها: "هذا القطار لن يصل إلى مطلوبك؛ فلا تركبه؛ وانطلق إلى حلقتنا؛ ففيها السفر الدائم"! فذهبتُ معه؛ وهناك؛ وجدتُ مئاتٍ من المسافرين؛ والكل يبكي بلوعةٍ؛ فقد أخذوا منهم أمتعتهم، وأموالهم، وكرامتهم؛ وتركوهم على قارعة طريق الذُّلِّ والمهانة؛ لا يجدون تذكرة العودة إلى الحياة! فأردكتُ على الفور؛ أنها دعوةٌ عرجاءُ؛ يحملها رَجُلٌ أعرجُ؛ كفانا الله شَرَّ العَرَجَ؛ كما قال صاحبنا الأصمعيُّ رحمه الله! وعندما؛ أتت العشر الأواخر من شهر رمضان المعظَّم؛ اعتكفتُ كغيري من الناس؛ في أحد الجوامع النائية؛ وهناك؛ هالني منظرهم العِرفاني؛ بِلِحاهم المباركة؛ وملابسهم البيضاء الملائكية؛ وأخلاقهم الشفيفة؛ وتواضعهم الأخّاذ؛ فانضممتُ إلى اعتكافهم؛ فاطمأننتُ؛ أنني وقعتُ على بُغيتي؛ مِن أهل لا إله إلا الله. كنا نملأ المسجد؛ وننصاع لكلام شيخهم القليل النادر؛ ونثق فيه ثقةً عمياء؛ وفي ليلة القدر؛ خاطبنا بورعه وتقواه؛ قائلاً: "هذه هي ليلة الجائزة الكبرى؛ يا أبنائي الأعِزّاء؛ فهلمَّ إلى العمل والطاعات؛ ولتثقوا في عطاء رَبِّكم وكرمه؛ فاخلعوا عنكم علائقكم بالدنيا الدَّنِيَّة؛ وانشغلوا فقط؛ بطرائق الوصول إلى كرامات أهل الذُّل والخشوع والإخبات؛ فأعطيناه كل ما كان معنا؛ مِن متاعٍ فانٍ مُضِلٍّ؛ وأموالٍ مائلاتٍ مُمِيلاتٍ؛ تصدنا عن الانشغال؛ بحقَّ قيام ليلة القدر؛ مِن الذكر، والدعاء، والإنابة، والبكاء. وبعد صلاة الفجر؛ لا؛ بل؛ بعد؛ صلاة الضحى؛ استسلمنا؛ للنوم؛ بعد يومٍ طويلٍ من العبادة الجميلة؛ مع هؤلاء النفر الطائع الخاشع المُتَبتِّل؛ ففوجئنا؛ بمن يوقظنا قائلاً: "أيها النُّوام؛ أين ملابسكم؟! وأين حقائبكم؟! وأين أمتعتكم؟! وأين أموالكم؟! فأفقنا؛ لِنجدَ أنفسنا عُراةً إلا من الملابس الداخلية؛ حتى الأحذية؛ لم يتركوها لنا! فتذكَّرتُ قول الشاعر الدكتور/ حسن الشافعي في ديوانه الجديد(بعد الثمانين بدأتُ شِعري): ألا ليتَ شِعري؛ هل يعودنَّ عهدهم وتبقى لَذاذاتُ النُّهى تتجدَّدُ؟! وهل أرِدن يوماً حِياضَ مَعينهم؟! أم الأمرُ: جُبّاتٌ وكُمٌّ مُمَدَّدُ؟! فأدركتُ أنا؛ بالقوة وبالفعل وبالسرقة؛ أنه تلبيسٌ من تلبيس إبليس حتى في شهر رمضان؛ لا بل حتى في العشر الأواخر منه؛ لا بل حتى في ليلة القدر؛ عظيمة القدر والشأن! فتوكّأتُ على عَوَزي؛ واعتمدتُ على خطلي؛ وبكيتُ على خطئي؛ فقرَّرتُ عدم الاغترار بالمظاهر؛ والملابس؛ والسمت؛ والدَّندنة؛ والسُّبحة؛ واللحية؛ والنِّقاب! فكَم مِن جرائم؛ تُرتَكبُ؛ باسم الدِّين! وكَم من فظائع؛ تُنتهَكُ؛ باسم الحقِّ والحقيقة! وصدق الحكيم القائل: "هو الحقُّ؛ مطيةُ كلِّ لاعبٍ؛ فاختر؛ لنفسك مطيةً أخرى؛ لا تُوْهِم على الناس؛ فتخدعهم به؛ وهو باطلٌ كله"!