من الروايات العالمية والقديمة.. والتى حظيت باهتمام كبير فى الآونة الأخيرة.. وسط حلقات وشرائح واسعة من الشباب.. لكأنها موضة العام والأعوام القادمة! رواية جورج أورويل «1984» التى اشتهرت ب«الأخ الأكبر».. والرواية رغم عمقها الفكرى وتميزها الفنى.. وتعريتها للنظم الديكتاتورية والفاشيات.. التى تبغى تشويه الإنسان وتحويله إلى دمية مشوهة، فاقدة القدرة على التفكير الحر، والتعبير عن آرائه دون قهر، أو استغلال.. وقدرة هذا الإنسان على بناء عالمه الإنسانى الخاص الذى يبغيه ويتمناه بعيدًا عن التنميط، وعن التفكير، والسيطرة، والتسلط.. فإن سر انتشارها قد لا يرجع لهذا المضمون الفكرى المهم.. وربما يرجع بالأساس.. إلى واقعة استثنائية، وربما شاذة.. قام بها بعض أفراد الأمن فى مطاردة بعض المتظاهرين فى ساحة الجامعة فى العام الماضى.. فإذا بهم يلقون القبض على «طالب جامعى».. لا شىء سوى أنه ضُبط متلبسًا وهو يحمل رواية «1984».. وكأن قراءة هذه الرواية بعد حملها.. تهمة يعاقب عليها القانون! ورغم هذه الواقعة التى تحمل بعدًا عبثيًا.. أو لا معقولًا.. إلا أنها فى اعتقادى هى التى حولتها إلى «موضة».. وتصدرت أعلى المبيعات فى الأسواق.... فالممنوع دائمًا مرغوب، وأتذكر فى هذا السياق عندما وجَّهت تهمة ازدراء الأديان للكاتب «أحمد ناجى» فإن روايته «استخدام الحياة» التى لم يكن أحد يهتم بها.. ولم يقرأها سوى أعداد تعدُّ على أصابع اليد.. إذ بهم يتحولون إلى عشرات الألوف.. وتزداد الأعداد وهم يحاولون قراءتها، من على صفحات التواصل الاجتماعى.. أو شراؤها من الأسواق التى يتحكم فيها قانون «العرض والطلب» لا الجودة والأهمية والتميز! ليس غريبًا إذن.. أن يعرض مسرح الدولة عرضين يستمدان مادتهما الأساسية من الرواية السابقة.. ومن قاعة تجريبية واحدة.. هى قاعة الهناجر التى تحتضن التجارب الجيدة والتى ينبغى أن نشكر مديرها «محمد دسوقى» الذى يساهم فى إطلاق هذه الطاقات الشابة، والواعدة.. لقد رأينا عرض «الزومبى» للمخرج الموهوب طارق الدويرى، وهو يعتمد على الرواية فى تشكيلها مع كتابات أخرى.. نعم قدم من خلالها عرضًا متميزًا.. لكنه يخاطب الخاصة بالأساس، لأن التجربة برمتها كانت تتحدث بخطاب ما بعد الحداثة.. وهناك مساحات فارقة بين ما تنشده المسرحية.. وما هو قائم من تخلف وجمود.. وسلفية ترنو على مناصى شتى من الحياة! كان «طارق الدويرى» يطير بنا من خلال منتوجه الفنى.. وهو وليد ورشة جماعية.. ليقدم لنا الإنسان رهين محبسين.. رهين العالم الافتراضى الذى يسبح فيه وينهل منه بحرية بلا ضفاف.. وواقعه المأزوم الذى يتراجع فيه العقل والعقلانية يومًا بعد يوم عن اللحاق بسباق العلم والمعرفة والجمال وإطلاق الحريات. أما التجربة الثانية.. وهى وليد ورشة فنية أيضًا.. فنحن بصدد وجهة نظر المخرجة المجتهدة «عبير على» التى أرادت أن تبسط الرواية بعيدًا عن تعقيداتها.. وتقرّبها من الجمهور المصرى، بل العربى.. وبالتالى نالت جائرة «عزالدين فنون» من تونس. لقد اختارت الورشة وعلى رأسهم «عبير» اسم «الرمادي» للرواية القديمة.. والتى لخصت السبب فى بانفلت المسرحية «نحن الآن فى مفترق طرق، فى مأزق تراجيدى، إما نعيش سويًا فى رحابة الاختلاف، أو نموت جميعًا على خلاف».. لقد جعلت هذه التيمة الأساسية التى تدور حولها الأحداث والشخصيات تتصارع، وربما تهوى من أجل الدفاع عن الاختلاف بالاساس.. وربما هذا ما دفعنى إلى استحضار مسرحية المخطفين للمبدع الكبير د. يوسف إدريس.. وكأنها البطل فى التجربة.. و«إدريس» انطلق من الأزياء حتى يصل إلى الأفكار.. ليدافع عن الحريات بكل معانيها وأفكارها.. لكن «أورويل» انطلق من الأفكار بالأساس.. من إدانة أفكار بعينها أدت لقيام حريين عالميتين.. فقد صوَّب قلمه ليعرى «النازية والفاشية».. وهى تحاول أن تقيد أنبل ما فى الإنسان وأعظمه الإرادة والحرية والتفكير.. إنه انطلق من تعرية «الأخ الأكبر» ونظامه المستبد القائم على استلاب تلك الحريات.. بل وتحويل الشعب والناس إلى ما يشبه الكائنات وحيدة النظرة والتوجه.. شىء أشبه بالحيوانات أو الحشرات أو الإنسان ذى البعد الواحد كما لخصه فيلسوف الشباب «ماركوزا». أما فى عرض الرمادى.. فالأزياء، والتنميط هو المدخل.. والتجربة قائمة على المفارقة.. بين رجل متمرد وجموع منصاعة.. ففى حين تستسلم الجموع لما هو مفروض، وفوقى، وقمعى يخرج رجل ليعلن الحب على زميلته.. فماذا تكون النتيجة؟ فى عالم مبرمج، حيث يشوهون التاريخ، وتتحول المآسى الكبرى.. إلى فرجة شعبية.. فتتحول حفلات إعدام المخالف إلى شىء أشبه بالكرنفالات التى ينخرط فيها الصغير قبل الكبير!. ماذا يحدث لمن يشذ عن هذا الوضع الاجتماعى الشائه.. فى تلك المدينة الوهمية التى تدعى «أوشيانيا»؟.. ماذا يحدث لأناس فقدوا آدميتهم وإنسانيتهم.. بعد أن تحولوا إلى مسوخ ترتدى الرمادى وتسلم به.. حتى يشى الأخ بأخيه، وأحبته وبنيه؟! نعم نرى المفارقة مجسدة فى أم تتباهى بأن أبناؤها الصغار.. ما هم إلا جواسيس صغيرة يتجسسون عليها وعلى أبيهم من ثقب الباب.. تروى الرواية بكل فخر، وهى تعد لهم وجبة يتلذذون بها وهم يحضرون حفلة الاعدام المغرمين بحضورها!! وإذا باللعب يتحول إلى حذ.. ونرى الأب يقع تحت طائلة التعذيب فى المعتقلات الجماعية.. بعد أن وشى الصغار به!! قد يقول شاهد مدرب: لقد رأينا فى التجربة المسرحية «الرمادى» أفكارًا ثانوية صارت أساسية.. وأخرى أساسية ظلت مهجورة ونائية.. لكن الإجابة باختصار أن لفريق العمل الحرية الكاملة فى التناول.. بشروط فنية وجمالية وفكرية قائمة على الممتع، والمتماسك، والجميل.. وهذا ما تحقق إلى حد بعيد.. ولا مسناه رغم الستار الشفاف والقاتم الذى رأينا من خلاله الأحداث.. ربما لأن المخرجة أرادت أن تخاطب عقولنا بالأساس ولم ترغب فى أن تدغدغ عواطفنا أو مشاعرنا.. لكن المشهد الأخير جاء ليطيح بذلك المعنى.. نعم جاء وكأنه خارج سياق العمل.. إذ فجأة تخلع الجموع «الرمادى» و«ترتدى الألوان المبهجةوتغنى للحرية فى رقص متواصل!! الأمر الذى دفعنى للاندهاش والتساؤل عن علاقة ما رأيته على امتداد ساعة ونصف الساعة.. بهذه النهاية التى تشبه الزائدة الدودية الملتصقة بالجسد للإضرار به لا لمنفعته. خاصة أن العمل أكد منذ البدء.. أننا نرى بلادًا بعيدة.. ونظمًا غاربة وغارقة فى الديكتاتورية والفاشية.. ونحن نتفرج عليها.. كنوع من المقاومة نقف على بعض تفاصيل حياتها.. بغيّة عدم الوقوع فى براثنها وأمراضها.. حتى يقينا الله ونقى أنفسنا شرورها وآثامها.