نشرت الصحف قبل أيام صورة بالغة القسوة والغرابة لرئيس ساحل العاج المخلوع لوران جباجبو الذي ظل متمسكا بالرياسة رغم فوز خصمه الرئيس الحسين وتره، وتسبب الصراع بينهما في حرب أهلية قتل فيها الألوف.. وما كادت الهزيمة العسكرية تلحق بالرئيس المخلوع بمساعدة القوات الفرنسية حتي تلقفه خصومه. وسيق الرئيس السابق جباجبو شبه عارٍ في شوارع ابيدجان العاصمة.. والتقطت الصور له ولزوجته وهم يقصون لها شعرها كنوع من التحقير والإهانة! في دول العالم المتحضر التي تحترم فيها حقوق الإنسان، سواء كان رئيسا مخلوعا أو لصا محترفا، أو تاجر مخدرات أو قاتلا وقاطع طريق، لا يسمح القانون بنشر صوره في السجن أو ماثلا أمام القاضي أو وهو في طريقه إلي المحاكمة حتي تصدر المحكمة حكمها النهائي بالإدانة.. ويمنحه القانون عكس ذلك حق السّتر ويحميه من التجريس والمهانة التي تمتد إلي ذويه وأسرته وأطفاله.. علي أساس أن الجريمة فردية وعقوبتها تنصب عليه وحده وليست علي أولاده والقريبين منه. ولست أدري إذا كانت القوانين العامة في مصر ومبادئ حقوق الإنسان التي تطبق فيها، تأخذ بهذه القواعد أو ببعضها؟ وقد شاهدت محاكمات عديدة في أوروبا وأمريكا يسمح فيها للإعلام بحضور المحاكمات ولكن لا يسمح فيها بالتصوير.. ولا يحدث كما هو الحال عندنا من نقل محاضر الجلسات كاملة دون إذن من القاضي أو الدفاع.. وتكتفي بعض وسائل الإعلام برسم افتراضي للجلسة ولا يسمح بالتصوير بالكاميرا داخل الجلسة علي كل حال. والغرض من ذلك كما هو واضح ألا يؤثر النشر بأي شكل من الأشكال علي العدالة وعلي سير المحاكمات، وألا تتحول جلسات التحقيق والمحاكمة إلي مادة يومية للحط من شأن المتهم أو الدفاع عنه. دارت في ذهني هذه الخواطر، وأنا أشهد كل يوم علي صفحات الصحف ووسائل الإعلام تلك المناظر المهينة للعدالة وللذوق العام ولكرامة الإنسان.. حين يضطر أقارب الرئيس السابق لمجلس الشعب وهو شخصية دولية معروفة إلي اخفاء نفسه وراء ملاية سرير بيضاء حتي لا تصل إليه كاميرات المصورين وهو في طريقه إلي جهاز الكسب غير المشروع.. وقبله عدد من الوزراء الذين غطي بعضهم وجهه بصحيفة أو بجاكتة. وكان وزير الداخلية الأسبق أكثر 'افتراء' حين استخدم - حتي وهو في محبسه - قوة من الدروع البشرية لإخفاء نفسه تماما عن عيون الرأي العام.. ولا أحد يعرف من أين أتته السلطة التي هيأت له التحكم في أفراد من قوات الشرطة بهذه الكثافة تحيط به من كل اتجاه.. الأمر الذي يثير الشكوك حول جدية التحقيقات مع حبيب العادلي!. أما في سجن طرة فقد اكتشف الناس أن السجن يمكن أن يكون خمس نجوم مثل فورسيزونز مزود بوسائل الراحة والتكييف وأجهزة الاتصال في غرف منفردة، أو يكون مثل زنزانة التعذيب أو عشش الفراخ التي تؤوي أعدادا بالمئات تنقر حبات الطعام علي خط إنتاج لا أول له ولا آخر. يبدو ما يحدث في بعض الأحيان أشبه بمسرحية كوميدية.. إلي درجة أن تضطر سلطات السجن إلي نقل عدد من المسجونين القدامي إلي سجون أخري، لإفساح المكان للنزلاء الجدد وتمكينهم من ممارسة حياتهم بنفس القدر من الرفاهية التي اعتادوها خارج السجن. وظاهر الأمر أنه لا توجد قوانين تنظم طريقة التعامل مع المتهمين الذين يجري التحقيق معهم.. ولا يهتم مجلس حقوق الإنسان ولا الجماعات الحقوقية علي كثرتها، بمراقبة الأوضاع الإنسانية للمتهمين تحت الحبس أو المحكوم عليهم. نحن لا نقول هذا تعاطفا مع بعض المتهمين الذين حكموا البلاد فأكثروا فيها الفساد فصب عليهم ربك سوط عذاب، ولكننا ندعو إلي أن تكون هذه المناسبة التي وجد الكبراء أنفسهم فيها نزلاء السجون، وسيلة لإصلاح أوضاع المتهمين والمشتبه فيهم.. وإدخال البعد الإنساني في معاملة المسجونين وإدارة السجون، وإلا وجدنا أنفسنا في وضع لا يختلف عن ساحل العاج.. يسقط الرئيس من عليائه فيساق في شوارع القاهرة أو شرم الشيخ.. وتترك زوجته للدهماء والمنتقمين يقصون شعرها ويحقرون شأنها.. وطوال نصف قرن ومنذ عرف المصريون السجون والمعتقلات والخصومة السياسية العنيفة، أهدرت حقوق الإنسان، وسمعنا عن التعذيب في السجون وعن سجن العقرب ومئات الذين اختفوا وذهبوا ولم يعودوا.. ربما يكون الأوان قد آن لبدايات جديدة تعيد العدل إلي نصابه!