عقل الرئيس    وزير الأوقاف السابق يطالب بعقوبات استثنائية لحماية براءة الأطفال من أي اعتداء    جامعة كفر الشيخ تواصل صعودها العالمي في تصنيف شنغهاي    بدء فعاليات التدريب المشترك «ميدوزا- 14» بجمهورية مصر العربية    قوى عاملة الشيوخ تناقش اليوم تعديل قانون التأمينات والمعاشات    أنواع الطعون على انتخابات النواب.. أستاذ قانون يوضح    "عيد الميلاد النووي".. حين قدّم الرئيس هديته إلى الوطن    تعرف على أسعار الخضراوات والفاكهة بأسوان اليوم الأحد 23 نوفمبر 2025    وزيرة التنمية المحلية: «اليونيدو» تنفذ 21 مشروعا في مصر بقيمة 61 مليون دولار    4.3 مليار دولار حجم صادرات مصر من الذهب خلال 8 أشهر    قناة السويس..حلم المنطقة الاقتصادية يتحقق    وزير الرى: تنفيذ خطة تطهيرات للترع والمصارف خلال السدة الشتوية    سعر الدولار أمام الجنيه فى بداية تعاملات اليوم الأحد    الزراعة تنفي تصفية سلالات الجيرسي وتؤكد دعم الإنتاج الحيواني    اسرائيل تكثف قصفها على مناطق عدة بجنوب قطاع غزة    وزير الخارجية يؤكد لنظيره الهندى دعم مصر لرئاسة بلاده مجموعة بريكس 2026    تايلور جرين تترشح لرئاسة أمريكا 2028 بعد استقالتها من الكونجرس وترامب السبب    غزة فى حماية الأمم المتحدة    الوجه الخفى للملكية    «سيد قطب» يحظر الإخوان فى أمريكا    ترتيب الدوري المصري قبل مباريات الأحد    كاف : الأهلي يبدأ رحلة المجموعات برباعية قوية فى شباك شبيبة القبائل    بسبب حكيمي، بايرن ميونخ يطلب مبررات عقوبة دياز للاستئناف    محمد صبرى موحد القطبين    مواعيد مباريات اليوم الأحد 23 - 11- 2025 والقنوات الناقلة لها    «الأرصاد»: طقس اليوم خريفي مائل للبرودة.. والعظمى بالقاهرة تسجل 32 درجة    المعاينة تكشف سبب انهيار جزئي لعقار البساتين    "الداخلية المصرية" فى المركز الثانى عالميا على فيس بوك.. فيديو    أولياء أمور مصر: كثافة التقييمات ترفع معدلات القلق بين الطلاب خلال امتحانات الشهر وتؤثر على أدائهم    محاكمة 17 متهمًا في «خلية العجوزة الثانية» لانضمامهم لجماعة إرهابية.. بعد قليل    بعد قليل| أولى جلسات محاكمة قاتل صديقه المهندس بالإسكندرية    افتتاح معرض "ليماسول" الدولي للكتاب بقبرص    كمال أبو رية: شبعت من فكرة الزواج.. والمجاملة تفسد الفن    المخرجة المغربية مريم توزانى: «زنقة مالقا» تجربة شخصية بطلتها جدتى    «هنيدي والفخراني» الأبرز.. نجوم خارج منافسة رمضان 2026    بعد قليل.. احتفالية كبرى بمناسبة مرور 130 عامًا على تأسيس دار الإفتاء    البرلمان الذى نريد    الصحة ترد على شائعات السوشيال ميديا بشأن شائعات البرد    تمريض جامعة القاهرة الأهلية تنظم غدا ندوة توعوية بعنوان السكري والصحة    وزارة الصحة: معظم حالات البرد والأنفلونزا ناتجة عن عدوى فيروسية    وزير الري: أي سدود إثيوبية جديدة بحوض النيل ستقابل بتصرف مختلف    مواقيت الصلاة فى أسيوط اليوم الاحد 23112025    تعرف على مواقيت الصلاة اليوم الاحد 23-11-2025 في محافظة قنا    حركة القطارات| 90 دقيقة متوسط تأخيرات «بنها وبورسعيد».. الأحد 23 نوفمبر    استطلاع: تراجع رضا الألمان عن أداء حكومتهم إلى أدنى مستوى    استشهاد 24 فلسطينيا في غارات إسرائيلية على غزة    طقس اليوم.. توقعات بسقوط أمطار فى هذه المناطق وتحذير عاجل للأرصاد    نقيب الموسيقيين يفوض «طارق مرتضى» متحدثاً إعلامياً نيابة ًعنه    وكيل صحة دمياط: إحالة مسئول غرف الملفات والمتغيبين للتحقيق    الصحة: علاج مريضة ب"15 مايو التخصصي" تعاني من متلازمة نادرة تصيب شخصًا واحدًا من بين كل 36 ألفًا    جولة نارية في الدوري الإيطالي.. عودة نابولي وتعثر يوفنتوس    حمزة عبد الكريم: سعيد بالمشاركة مع الأهلي في بطولة إفريقيا    د.حماد عبدالله يكتب: مشكلة "كتاب الرأى" !!    حبس 10 متهمين في أحداث مشاجرة بعد مقتل شاب وإصابة 4 آخرين بكفر الشيخ    مفتي الجمهورية: خدمة الحاج عبادة وتنافسا في الخير    شاهد الآن.. بث مباشر لمباراة الهلال والفتح في الدوري السعودي روشن 2025-2026    دولة التلاوة.. أصوات من الجنة    خلاف حاد على الهواء بين ضيوف "خط أحمر" بسبب مشاركة المرأة في مصروف البيت    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



شجرة الدر '3'

قصة 'المملوك' الذي ارتقي لعرش 'مصر' 'الرؤية' التي تحولت إلي 'حقيقة' في وفاة 'أيبك' وزواجه حكايات ساحرة.. لغيرة 'الأنثي' وخطف قلوب الرجال
في الجزء الثالث من رواية 'شجرة الدر' تتفجر مفاجآت عدة، علي رأسها تلك الرؤية التي أفضي بها 'أبو زهرة' إلي 'أيبك' بأنه سيبلغ عرش مصر، وأنه سيتزوج ثم يموت.. وكيف تجاوز محنة المرض التي مر بها، وتوقع فيها الجميع هلاكه، إلا أنه نجا منها.
ويتناول هذا الجزء ما كان يدور في بيوت وقصور المماليك من حكايات ساحرة، وغيرة الإناث من بعضهن وفتنة الجمال التي كانت تتباهي بها كل منهن.
'4'
ملوك أربعة!
سترتقي إلي العرش يومًا أيها الفتي، وتبلغ من المجد والسلطان ما لم يخطر لك علي بال، ولكن..
ماذا يا أبا زهرة؟
لا شيء، أفليس يكفيك أيها المملوك أن تبلغ العرش؟ أفتطمع فوق ذلك في مزيد من السعادة؟
بلي، ولكنك لم تفصح لي عن كل ما في نفسك، أثمة ما تخاف أن تفضي به إلي من أنباء الغد؟
ابتسم أبو زهرة المكفوف وهز رأسه هزات دائرية متتابعة، ثم تنفس نفسًا عميقًا وراح يمشط بأصابع يسراه لحية مسترسلة علي صدره وهو يقول ساخرًا:
نعم، نسيت أن أقول: إنك ستتزوج، ثم تموت!
ردد أيبك في بلاهة:
أتزوج ثم أموت؟
قال أبو زهرة وهو يتحسس موضع عصاه إلي جانبه لينهض:
ألا تصدق هذا؟ أتظن أن تموت أولاً ثم تتزوج بعد؟
وقهقه في سخرية، ومضي في طريقه يدب علي عصاه، وترك أيبك في بحرانه!
ذلك كل ما جري من الحديث بين أيبك الجاشنكير وأبي زهرة المنجم، ولا يزال أيبك منذ سمعه في هم وقلق، ولا يزال أصحابه منذ حدثهم بخبره يركبونه بالعبث والدعابة والسخرية، لا يكاد يطالعهم وجهه حتي يجدوا من تشقيق ذلك الحديث مادة للضحك والفكاهة.
علي أن حديث ذلك المنجم لم يلبث أن فقد سحره بين هؤلاء النفر من المماليك، فقد أسَّر أبو زهرة إلي بيبرس، كما أسر إلي قلاوون، حديثًا مثل حديثه إلي صاحبهم أيبك أو قريبًا منه، فإن صح ما حدثهم به فسيكونون جميعًا ملوكًا، ويتزوجون، ثم يموتون.. وأين البلد الذي يتسع عرشه لثلاثة ملوك، أو أربعة!
قال أق طاي عابثًا:
'ولو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا' صدق الله وكذب المنجم!
فضحك بيبرس وقال:
أفلست تريد أن تستنبئه مثلنا أنباء غدك، فلعله أن يبايعك مثلنا ملكًا رابعًا!
قال آق طاي:
حسبه أن يسخر منكم، أما أنا فلست أريد أن أكون ملكًا، وليس يعنيني أن أتزوج قبل أن أموت، أو أموت ثم أتزوج!
وأغرق المماليك الأربعة في الضحك ثم تفرقوا فذهب كل منهم إلي وجه.
ومضت أيام قبل أن يتجدد حديث أبي زهرة بين المماليك، ذلك أن أيبك الجاشنكير قد أشرف علي الموت، ولم يتزوج، ولم يبلغ العرش، وهؤلاء أصحابه قد تحلقوا حول فراشه مشفقين جزعين، وهو يئن ويتلوي، قد احتقن وجهه وتقلص جبينه، وهذا رسول الأمير نجم الدين يسأل عن حاله قلقًا مثلهم مشفقًا أن ينال ذلك المملوك المخلص سوء..
وظل أيبك في الفراش أيامًا، يتوقع أصحابه في كل لحظة أن ينتزعه الموت من بينهم، ثم زايله الخطر ونجا، وزفت البشري إلي الأمير نجم الدين، فسري عنه واستبشر، فما كانت نجاة أيبك إلا نجاة للأمير من شر كان يتربص به، فقد كان الأمير جالسًا إلي مائدته ذات مساء وقد قدم إليه عشاؤه، وتذوق الجاشنكير الطعام علي عادته قبل أن يمد الأمير إليه يدًا، فلم يكد يحس مذاقه حتي صاح عجلا:
في الطعام سم يا مولاي!
وغُثيت نفسه ودار رأسه، فلولا أنه استند إلي الجدار لهوي بين يدي مولاه. ونهض الأمير عن المائدة لم يصب منها شيئًا، وحمل أيبك الجاشنكير إلي فراشه والسم يمزق أحشاءه.
وكافأه الأمير علي ما ناله، فعقد له علي جارية من بنات الإغريق، ذات جمال ودلال وفتنة، كانت من سبايا الأمير غداة عودته من حرب غياث الدين صاحب بلاد الروم، ولكنها تزعم أن لها نسبًا ملوكيًا في بلاد الأشكري صاحب القسطنطينية، وكانت بجمالها ودلالها وما تزعم من عراقة أصلها، ذات حظوة بين جواري الأمير، حتي غلبتها علي مكانتها شجرة الدر، ثم زينت شجرة الدر للأمير من بعد، أن يهبها لمملوكه أيبك، لتخلص منها ويخلو لها وجه الأمير.
قال بيبرس لصاحبه ضاحكًا:
هذه نبوءة من نبواءات أبي زهرة قد تحققت يا أيبك وتزوجت قبل أن تموت!
قال آق طاي:
ولكن نبوءة أبي زهرة لم تبلغ به العرش، وكان حقيقًا بأن يبلغه قبل أن يتزوج، لو صدق المنجم!
قال قلاوون ساخرًا:
بل أراه قد بلغ أو كاد، أليست زوجته من بنات الأشكري فيما تزعم، فقد أوشك أيبك أن يجلس علي عرش أبيها في القسطنطينية!
قال أيبك مسترسلاً فيما بدأ أصحابه من الدعابة:
ويكون من وزرائي آق طاي، وبيبرس، وقلاوون!
فصاح آق طاي مصطنعًا هيئة الغضب:
اخسأ! أيكون مثلي وزيرًا لك!
قال قلاوون:
أما أنا فقد رضيت أن أتوزَّر لك، علي أن تجعل لي العرش من بعدك!
قال بيبرس:
بل يكون لي العرش من بعده وتكون وزيري وولي عهدي يا قلاوون!
قال آق طاي:
اقتسموها بينكم علي أي وجه شئتم، أما أنا فلن أطلب العرش قبل أن أطلب زوجة من بنات الملوك لم تدخل تحت رق قط..
'5'
غيرة الأنثي
جلست شجرة الدر بين يدي ماشطتها ترجل لها شعرها وتضمخه بالطيب وتعقد منه ما تعقد حلقات وترسل ما ترسل، وشجرة الدر في غفلة عن نفسها وعن ماشطتها وما تفتن فيه من أسباب زينتها، وقد سرحت خواطرها هنا وهنالك، ترود أقطارًا لم تقع عينها عليها قط، ولم تتمثلها في وهم ولا في حقيقة. تري ماذا في القاهرة وعلي النيل من مغاني الحسن ومجالي الهوي حتي لتفعم وجدان كل من في هذا الحصن حنينًا ولهفة، فلا تزال كلما أرهفت أذنًا سمعت منشدًا يشدو أو جارية تغني:
حبذا دور علي النيل وكاسات تدور
ومسرات تموج الأرض منها وتمور
وقصور ما لعيش نلته فيها قصور
كم بها قد مر بي أستغفر الله سرور
كل عيش غير ذاك العيش في العالم زور
منزل ليس علي الأرض له عندي نظير!
'دور، وكاسات، ومسرات، وقصور، وسرور، وكل عيش غير ذلك زور'.
تلك أغنية الجميع في ذلك الحصن: شبابًا وكهولاً ومشيخة، حتي الأمير نفسه علي ما فيه من وقار الإمارة لا يكاد يخلو إلي نفسه ساعة حتي يجري علي لسانه بيت أو أبيات من مثل ذلك الشعر، فيه الهوي والحنين واللهفة، ولا يزال بهاء الدين زهير، ذلك الشاعر الوشاء، ينظم كل يوم جديدًا من الشعر يذكي به عواطف الشباب والكهول ويبعث الشوق والجنين.
وهاج بها داء الأنثي، فتخيلت في نبر كل أغنية من تلك الأغاني نبضة قلب عاشق مفارق، فنهشتها عقارب الغيرة، إنها لتريد نجم الدين خالصًا لها من دون النساء!
وفرغت الماشطة من زينة سيدتها ولم تؤب السيدة بعد من سرحتها في عالم الأوهام، وهتفت بها الماشطة:
سيدتي!
فانتبهت شجرة الدر كأنما آبت من سفر بعيد، واعتدلت لتري صورتها في المرآة مقبلة ومدبرة، ثم ابتسمت، فأشرقت ابتسامتها بالنور علي وجه لم ينطبع في المرآة أجمل منه، فرضيت وقرت عينًا، وعطفت جيدها إلي الماشطة شاكرة:
لله ما صنعت يداك يافتاة!
قالت الجارية:
بل سبحان الذي خلق فسوي يا مولاتي، لقد آثر الله مولاي الأمير من هذا الجمال بنعمة لم يظفر بمثلها أحد من ملوك الأرض، وإنه لحقيق بما نال!
فانبسطت نفس الأميرة بما سمعت من ثناء الجارية، وأنست إليها، فأقبلت عليها تحدثها وتستمتع إليها، كأنما تريد أن تزيدها حديثًا عن جمالها، أو أن تبدأها حديثًا آخر عن الأمير الذي تريد أن تستأثر بحبه فيكون قلبه خالصًا لها من دون النساء.
قالت شجرة الدر:
منذ كم تعيشين في قصر الأمير يا فتاة؟
قالت الفتاة:
منذ نشأت يا سيدتي، وكانت أمي ماشطة السيدة 'ورد المني' والدة الأمير، فاختصصت بخدمة مولاي منذ كان نائبًا عن أبيه الملك الكامل في القاهرة.
ثم أردفت الفتاة وفي عينها حنين ولهفة:
آه يا سيدتي لو رأيت القاهرة، إنها عروس المدائن! لقد شهدت في رحلتي إلي هذا الحصن: دمشق، وبغداد، وكثيرًا من بلاد المشرق، فوالله ما رأيت بلدًا كمصر، ولا نهرًا كالنيل!
فأسبلت شجرة الدر جفنها وقالت وعلي شفتيها ابتسامة:
لعل لك هوي في القاهرة يا جهان!
فأحمر وجه الفتاة من حياء وأغضت، ثم قالت:
إن هواي يا مولاتي حيث يكون هوي الأمير!
قالت شجرة الدر في خبث:
وأين هواه اليوم؟
قالت وفي عينيها إعجاب:
إن هواه اليوم يا مولاتي حيث تعرفين، وإنه حديث كل من في الحصن!
وسمعت خطوات تقترب من باب المخدع، فهمت الفتاة بمغادرة المكان، وخطفت شجرة الدر نظرة إلي مرآتها قبل أن تخطو إلي الباب لتستقبل مولاها.
وخلا المكان إلا من اثنين، ولكن الأمير ظل صامتًا جامد الوجه، قد سرح فكره وصوب نظره ثابتًا لا يكاد يطرف، وتعلقت به عينا صاحبته صامتة مثله لا تجرؤ علي أن تبدأه الحديث، وطال بينهما الصمت، فما قطعه إلا صوت مطرب يغني من وراء الحجرات بشعر زهير، وهو يردد:
حبذا دُورّ علي النيل وكاسات تدورُ!
وثابت إلي الأمير نفسه، فتنفس نفسًا عميقًا، ثم هز رأسه وهو يردد:
'حبذا دور علي النيل...'.
وانقبضت نفس صاحبته واعتادها داؤها، وتخيلت ما تخيلت من أوهام الأنثي، ولكنها كظمت نفسها وقالت وهي تصطنع الهدوء:
أري مولاي بحاجة إلي أن يسمع غناء ليتخفف من بعض أثقاله ويزيل متاعبه!
قال الأمير باسمًا:
حبذا.. يا شجرة الدر!
فقامت إلي خزانتها فأخرجت عودًا فاحتضنته وحنت عليه، وراحت أصابعها تجس أوتاره، ثم رفعت إلي الأمير عينين فاتنتين وهي تقول:
أفيريد مولاي أن أغني له ذلك الصوت أم يقترح صوتًا غيره؟
قال الأمير:
بل تقترحين أنت!
فأنغضت رأسها ومرت أصابعها علي العود، وارتفع صوتها رويدًا رويدًا:
أغار عليك من عيني ومني
ومنك ومن مكانك والزمان
ولو أني خبأتك في جفوني
إلي يوم القيامة ما كفاني!
قال الأمير وقد استخفه الطرب:
ولا كفاني!
ثم مد إليها يدًا فأنهضها، ومضيا يجوسان خلال الغرفات سعيدين بما بلغا من نعمة الحب والوفاء.
لقد عرفت شجرة الدر مكانها من نفس أميرها، وعرف نجم الدين مكانه، وكانت من الغيرة عليه والرغبة في الاستئثار به، في مثل غيرته وأثرته، فلم تدع له منذ تواثقا علي الحب أن يفكر إلا فيها أو معها، ولم يدع لها: لا تريد ولا يريد يستأثر أحدهما دون صاحبه بشيء، ولا أن يفكر منفردًا في أمر، فهما سواء وعلي رأي مشترك، في الحب، وفي الحرب، وفيما يصطنعان من أساليب السياسة لإدارك العرش، وعادت غيرة الأنثي علي رجلها غيرة ملكة علي السلطان، تريد أن يمتد ظلها علي البسيطة ويدين لها الملايين بالطاعة والولاء!
'6'
طفل ملك
اطمأن الملك الكامل إلي عاقبة أمره وسلامة تدبيره، حين استخلف ولده العادل سيف الدين علي عرش مصر وجعل والده الصالح نجم الدين علي عرش المشرق، وخُيل إليه أنه مستطيع أن يخلد إلي الراحة والسلام ما بقي من أيامه، وقد بلغ الستين من عمره، جلس منها علي عرش مصر أربعين عامًا، نائبًا عن أبيه عشرين منها، أو مستقلاً بالحكم عشرين.
علي أن الملك الكامل علي حنكته وأصالة رأيه وطول تمرسه بالحكم لم يلق بالاً إلي ما قد يجد تدبيره ذاك من معارضة الأمراء العظام من آل أيوب، ومنهم إخوته وأبناء عمه أمراء الشام، وكلهم يري نفسه أحق بعرش مصر من ذلك الصبي، كما غفل عما قد يلقي ذلك التدبير من مقاومة ولده الصالح نجم الدين نفسه، وهو أرشد بنيه وأحقهم بخلافته علي عرش بني أيوب.
فلم تكد تذيع تلك الأنباء من القاهرة حتي تمرد أمراء الشام وشقوا عصا الطاعة، فنشبت سلسلة من المعارك بينهم وبين الكامل لم تدع له فرصة لما كان يأمل من الطمأنينة والسلام، علي حين كان ولده الآخر في حصن كيفا يدبر تدبيره في صمت ويتحين الساعة التي ينقض فيها علي عرش القاهرة ليستخلصه لنفسه، وكانت تؤازره في التدبير زوجه الشابة الطموح شجرة الدر، وقد ارتفعت منزلتها عند الأمير منذ ولدت له، فلم تعد كما كانت منذ قريب جارية محتظاه، ولكنها زوجة وأم ولده وصابحة تدبيره وشريكته في الجهاد، وقد أجد لها هذا المولود أماني واسعة: فهي اليوم زوجة الأمير الذي يهيئ نفسه لعرش مصر والشام والجزيرة وما يليها من البلاد، وهي في غد أم السلطان خليل ابن السلطان نجم الدين وخليفته علي عرش بني أيوب، وتجتمع في يديها كل السلطات!
قال الأمير وقد تناول الطفل بين يديه وتمثل في نظرة عينيه كل حنان الأبوة:
هذا يومك يا بني، فليت لي علمًا عن غدك!
فبرقت عينا أمه وسرحت بخواطرها تتخطي الزمان والمكان وثبًا، فكأن قد رأت نفسها علي عرش مصر سلطانة ورأت فتاها، فلم يردها من سرحتها إلا حاضنة الصبي وقد افتر ثغرها عن ابتسامة الأمل وهي تقول:
سيبلغ حيث أردت يا مولاي بتوفيق الله، وتهتف باسمه الخلائق في شرق الأرض وغربها، ويفيض المجد علي كل من حوله من آل بيته!
قالت شجرة الدر، وقد اتسعت نفسها حتي شملت كل ما حولها برًا ورحمة:
ويفيض بره علي حاضنته خاتون التي بشرت بما يبلغه من المجد قبل أن يدرج من مهده!
قالت الحاضنة:
وتكون كل سعادتي يومئذ يا مولاتي أن أباهي بأنني حاضنة السلطان خليل وصفيةُ أمه، إن راقك يا مولاتي أن تصطفي مثل جاريتك خاتون!
فربتت الأميرة كتفها قائلة:
بل إن أمه يومئذ لتباهي بأنك حاضنة ولدها!
ودس الأمير يده في جيبه ونثر كيسا من ذهب في حجر الجارية، ثم انصرف لشأنه وخلي المرأتين تتحاوران إلي جانب مهد الصبي.
قالت خاتون:
إن لأبي زهرة المنجم يا مولاتي أسبابًا وثيقة إلي الغيب، وإنه لشيخ قد عمي وكف بصره، ولكنه يما يروي من أنباء الغد كأنما يقرأ في لوح مسطور!
قالت شجرة الدر:
وتؤمنين بما يهرف به هؤلاء المشعوذون يا خاتون؟
قالت:
إنه إلا يصدق يا مولاتي فيما يحدث به من أنباء الغيب فحسبه أن يبذر بذور الأمل وينشر السلام والطمأنينة، وقد استمعت إليه منذ أيام يتحدث إلي جهان ماشطة مولاتي حديثًا ما يزال له حمرة في وجنتيها وبريق في عينيها، كأن قد بلغت كل المني، وما زاد الأمر علي حديث سمعته!
قالت شجرة الدر جادة:
ماشطتي جهان؟ فادعيها إليّ لأسمع حديثها!
فعضت خاتون علي شفتها وقالت:
معذرة يا مولاتي، فما قصدت أن أفشي سر جارية من جواري مولاتي تُخلص لها الحب، وإنما استرسل بي الحديث وأغراني عطف مولاتي!
قالت:
لا عليك من ذلك يا خاتون، وإنما يشوقني حديث تلك الجارية.
فنهضت خاتون لأمر سيدتها، ومالت شجرة الدر علي مهد الطفل النائم تنشق من عبق أنفاسه روح الأمل.
وكانت جهان فتاة مشبوبة العاطفة مرهفة الحس، وقد نشأت جارية في بيت بني أيوب بالقاهرة، ولكن مكانة أمها من 'ورد المني' أم الأمير نجم الدين قد هيأت لها بين جواري الأمير منزلة خاصة فرضت عليها نوعًا من الوقار والتزمت، حال بينها وبين كثير من مسرات الشباب، فظلت عذراء القلب، إلي عاطفة مشبوبة وحس مرهف، ثم تهيأت لها الفرصة ذات يوم للحديث إلي المملوك بيبرس، فسري بينهما تيار الحب، وما كشف لها عن ذات صدره ولا كشفت له، ثم أغلق من دونهما الباب فما رأته ولا رآها من بعد، ووقع في شرك الحب قلبان لا يجدان وسيلة إلي اللقاء ولا سبيلاً إلي السلوان!
ولم تكن الفتاة تدري بما يعتلج في نفس صاحبها من الهوي ولا كان هو، ولكنها من الوحدة والكتمان كانت أشب عاطفة وأشد قلقًا، فالتمست أبا زهرة المنجم تستعينه علي أمرها وتستنبئه أنباء الغد، فأنبأها، ولم يزل لحديثه منذ ذلك اليوم حمرة في وجنتيها وبريق في عينيها، وعرفت خاتون من خبرها علي لسان المنجم ما عرفت، فتحدثت به إلي مولاتها شجرة الدر.
قالت الأميرة:
وإذن فأنت علي ثقة من حُبه يا جهان!
فأنغضت رأسها وتضرجت وجنتاها من حياء ولم تُجب.
قالت شجرة الدر:
لا تراعي يا فتاة! إن بيبرس جندي من جند الأمير يُرجي غده، وإنك لتعرفين مكانك من نفسي ومن نفس الأمير، فسيجتمع شملك ببيبرس وتكونين له ويكون لك، ولكن عليه قبل أن يظفر بهذه الأمنية أن يؤدي ثمنها!
ثم استضحكن وقالت:
وفي دار علي النيل يا جهان ليس مثلها في الأرض، يكون اجتماع شملك بمن تحبين، وتغنين له ويستمع إليك:
'حبذا دار علي النيل.. '
.. أما هنا فلا، إن عليه سفرًا طويلاً قبل أن يبلغ منزلك!
قالت الفتاة ولم تزل في إطراقها:
شكرًا يا مولاتي.
فمدت الأميرة إليها يدًا فأنهضها وهي تقول:
لا شُكر اليوم يا بنية، فانتظري حتي تري ونري ما يكون غدك!
ودري بيبرس بكل ما كان من خبره وخبر صاحبته، فاعتقدها يدًا للأميرة عنده تقتضيه الوفاء، فكان همه منذ اليوم أن يلتمس أسباب رضاها، وأفعم قلبه الأمل!
وإلي العدد القادم..


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.