رؤوس الأجداد.. وهامات الأحفاد '15'

إن كانت حرية التعبير المطلقة التي يدعي 'المنفلتون' في كل مكان أنها حق أصيل لهم لا يستطيع أحد منازعتهم فيه، وبالذات في بلاد الغرب حيث تكفله القوانين، التي من المفترض أنها صارمة، ومتحضرة، واحترامها واجب مقدس علي الكبير قبل الصغير، فبما أن المسألة محسومة بهذا الشكل المزعوم، إذن بماذا نفسر كل تلك الجَلَبَة الدائرة هناك؟!! ولماذا نقرأ ونري ونسمع كل يوم هذه التناقضات الصارخة في الآراء والتصريحات والأفعال والتحليلات الصادرة سواء عن مسئولين أو مواطنين عاديين لا سيما في الولايات المتحدة الأمريكية، وإسرائيل، وتركيا، وأوروبا فضلاً عن فرنسا المعنية الأولي بعملية الهجوم علي صحيفة 'شارلي إيبدو'، وما تلاها من أحداث دامية أخري في باريس وضواحيها أسفرت حصيلتها مجتمعة عن مقتل 20 شخصا، وإصابة 11 آخرين.
ونتيجة لذلك خرج قرابة 5 ملايين مشارك في 'مسيرة الجمهورية' يومي 10 و11 الجاري يتقدمهم حوالي 50 من القادة، والرموز، والشخصيات العامة حول العالم، بجانب الرئيس الفرنسي 'فرانسوا هولاند' للتنديد بتلك الجرائم، وبالإرهاب بصفة عامة رافعين شعار 'أنا شارلي'!!
وهو ما شجع الصحيفة- في سابقة تاريخية- علي طرح رقم قياسي مقارنة بما اعتادت إصداره منذ تأسيسها عام 1970 والذي لم يتخطَ 60 ألف نسخة، تضاعفت بقدرة قادر لتصل إلي 5 ملايين نسخة من عددها الصادر في الأسبوع التالي للواقعة المأساوية، حرصت فيه علي ألا يخلو أيضاً من رسوم مسيئة للنبي صلي الله عليه وسلم، ولكنها أقل حدة من ذي قبل.. في استعراض باهت ومكشوف لعنادها وقدرتها علي السباحة ضد أي تيار يفكر في تقويض حريتها المطلقة في التعبير، حتي لو انحدرت إلي مستوي السفالة والوقاحة كما يُطلَق عليه في قاموس الشعوب المحافظة والمحترمة.
فبينما فازت 'شارلي إيبدو' في أعقاب الحادث بجائزة 'دانييل بيرل' للشجاعة والنزاهة الصحفية لعام 2015 بحسب ما أعلن نادي الصحافة في 'لوس انجلوس' تكريماً لها، وتقديراً لجرأتها وبسالتها، نقرأ في نفس الوقت علي صفحات مجلة 'لونوفيل أوبسرفاتور' تصريحاً لأحد مؤسسي 'شارلي' يدعي 'هنري روسل' وصف فيه مدير تحريرها القتيل 'ستيفان شاربونييه' بأنه 'عنيد وأبله'، وأنه المسئول عن مقتل زملائه، وهو ما أثار حفيظة 'رشار مالكا' محامي 'شارلي إيبدو' الذي راح يعاتب المجلة علي نشر مثل ذلك التصريح، فما كان من المجلة إلا الرد عليه بنفس حجج وذرائع 'شارلي' الواهية ألا وهي: 'حرية التعبير'!!
وبحسب صحيفة 'الجارديان' البريطانية أدان إمبراطور الإعلام 'روبرت مردوخ' الحادث عبر موقع 'تويتر' وحمل المسلمين مسئوليته، مما دفع الكاتبة 'جي كاي رولينج' مؤلفة سلسلة 'هاري بوتر' إلي الرد عليه: إنه بنفس المنطق يكون كل المسيحيين مسئولين عن حقبة محاكم التفتيش الإسبانية التي تمت فيها عمليات إبادة ضد المسلمين في الأندلس، وأردفت 'رولينج' في تغريدة أخري أنه طبقاً للإحصائيات فإن عدد ضحايا الإرهاب من المسلمين يفوق مثيله من غير المسلمين بثمانية أضعاف، كما أشادت بشجاعة الموظف المسلم 'لاسانا باتيلي' لقيامه بمساعدة رهائن المتجر اليهودي بباريس علي الهرب.
فرنسا قلعة الحرية الحصينة في كوكب الأرض تذرف الدموع أنهاراً علي شهداء حرية التعبير، وفي نفس الأثناء توقف سلطاتها الساخر الفرنسي 'ديودونيه' للتحقيق معه تمهيداً لتقديمه للمحاكمة بتهمة 'الإشادة بالإرهاب'!! لقيامه- بعد مشاركته في المسيرة- بتدوين رأيه عبر الفيس بوك ولكن علي طريقته الخاصة قائلاً: 'إنها لحظة ساحرة.. شعرت هذا المساء أنني شارلي كوليبالي' في مزج متعمد بين اسم الصحيفة، واسم أحد الإرهابيين المنفذين لتلك الهجمات.. بينما راح الكثيرون يرفعون شعار 'أنا لست شارلي' علي عكس الشعار الأصلي المُتَفَق عليه، في إشارة واضحة إلي رفض أسلوب الصحيفة في النقد، وإساءة استخدامها لمبدأ حرية التعبير.
لم يقف التخبط والارتباك في المشهد الغربي عند هذا الحد بل تجاوزه إلي نطاق الهزل الماسخ متجسداً في التقرير الصادر عن البرلمان الأوروبي حول الأوضاع في مصر والذي كان من بين مطالباته الإفراج عن أعضاء الجماعة الإرهابية بأحكام قانون الدولة المصرية المستقلة صاحبة السيادة.. كما طالب أيضاً البرلمان 'الموقر' في بيانه 'العجيب' إقرار حقوق المثليين!! وإلغاء عقوبة الإعدام!! والسماح بالإساءة للأديان بدعوي حرية التعبير.
تلك التشابكات إنما تبرهن علي أن الحرية 'المطلقة' في التعبير، وفي كل شيء كانت وستظل إلي الأبد حلماً لن يتحقق حيث لا وجود لأي أمر مُطلَق تحت الشمس.
ولنستكمل في العدد القادم بمشيئة الله.
[email protected]