في يوليو الماضي " كتبت مقالا بعنوان "صور المساخر في بلاد المفاخر" تناولت فيه صور المظالم التي ظل يرزح تحت نيرها الشعب التونسي في ظل حكم طاغيته ' وتطرقت في حديثي إلي التواطؤ العام من قبل الإعلام العربي الرسمي والحزبي والخاص تجاه هذا القهر وقلت أن ذلك يرجع لكون طاغية تونس اعتبرها شركة وراحت النقود التونسية تذهب إلي الصحف والصحفيين في العالم العربي طولا وعرضا في صورة إعلانات أو إعانات أو حتي رحلات وهدايا الأمر الذي جعل قطاعا منهم يهلل لكل ما يفعله "بن علي" حتي لو كان افتتاح محلا للطرشي!. أنا في الحقيقة خائف من تطويق واحتواء الثورة التونسية ' بل أكاد أقرأ الصورة بكثير من الحذر وقليل من التفاؤل مما يقرأها الكثيرون ' وأري أن الثورة المضادة للثورة التونسية قد بدأت في ذلك اليوم الذي أعلن فيه الوزير الأول محمد الغنوشي نفسه رئيسا للجمهورية رغم انه أحد أضلاع النظام البائد !. ورغم عفوية الثورة التونسية المباركة وطاقتها الهادرة المستمدة من شعب تصور العالم أجمع أنه "مات" وشيع "بن علي" جثته الي مثواها الأخير ' إلا أنه فاجأ العالم بأنه ليس ما زال حيا فحسب ' بل أنه قوي وقادر علي دحر قاتليه وإصابة القتلة بالذهول وإيقاظ شعوب العالم العربي أجمع وتأكيد قدرتها علي التغيير القسري. ولكن ما كان ينقص الثورة التونسية المباركة تلك القيادة الواعية التي تؤطر الأطر وتقيس الأفعال والأقوال أثناء قيادتها الجماهير الغفيرة إلي بر الأمان الذي تحقق فيه الثورة أهدافها كاملة ' والتي لو تواجدت ما كانت لتسمح لأفراد من حزب "بن علي" الحاكم الاستيلاء علي الثورة ' ليستمر ينهش أجساد التوانسة مجددا ويمتص دمهم ' وبالتالي ستكون الثورة لم تفعل شيء سوي أنها غيرت ظلما بظلم وطغاة بطغاة. إن نجاحا لأي ثورة يتطلب اشتمالها علي عناصر مركبة تبدأ بثورة شعبية وتنتهي بتغيير شامل وهو ما لم يتحقق في الثورة التونسية التي بدأت بشعبية ولكن لم تحقق التغيير الشامل ' ومن تلك العناصر الواجب اشتمالها هي ثورة شعبية وقيادة واعية ونظرية فكرية إطارية ' ورغم أن الثورة التونسية تهيأ لها أهم وأخطر تلك العناصر المتمثل في الحشد الشعبي' إلا أنها افتقدت للقيادة الواعية حتي ارتضت أن يقودها أشخاص ممن قامت الثورة ضدهم ' كم افتقدت أيضا للأطر الفكرية الساعية الي تبنيها وتحقيقها الأمر الذي قد يجعل بعضا من المغرضين ركوب الثورة وتوجيها إلي أي وجهة يتوجهونها . كان يجب علي الثوار التونسيون أن يقوموا بعقد جمعية وطنية ممثلة من كافة الأطياف الفكرية الرئيسية كالقوميين والإسلاميين والاشتراكيين والليبراليين ' ويراعي في أعضاء هذه الجمعية أن يكون مشهود لهم بالنزاهة واحتراف "التفكير" لا "التجارة" بالأفكار وعدم التلوث بإغراءات النظام البائد ' ويبقي عمر هذه الجمعية عامين يوضع فيهما دستورا جديدا وتلغي جميع الاحزاب والجمعيات والمؤسسات الوهمية التي كانت ترتدي رداء الديمقراطية . ورغم ذلك فقد أعدت الثورة التونسية بحق واحدة من أهم الثورات في العالم أجمع ' وتكاد تعادل في قيمتها الثورتين البلشفية في روسيا وهي الثورة التي امتلكت كل مقومات الثورة ' والثورة الفرنسية وهي التي بدأت كهبة شعبية ثم اكتمل لها ضلعا المثلث حينما وجدت الزعامات والمرجعيات الفكرية. اما الفرق بين الثورة التونسية وثورة يوليو المصرية 1952 ان الأخيرة بدأت كانقلاب عسكري ثم بعد ذلك حققت التغيير الشامل الذي تلاقي مع ارادة الجماهير وعبر عنها. لقد وعدت الثورة التونسية الحالمين بالتغيير في عالمنا العربي بإمكانية تحقيقه ' لاسيما أن الجميع جرعوا من نفس الكأس وتهيأت عندهم نفس الأسباب والمفجرات. وكشفت تلك الثورة عن الأهمية القصوي لمتغيرين تقنين لم تعهدهما أية ثورة سابقة وهما الانترنت والفضائيات ' فلقد اخترق التوانسة حاجز الإغلاق والصمت المطبق الذي فرضه عليهم نظام الطاغية وراح الانترنت يصبح متنفسا لا يمكن السيطرة عليه في نقل ما يحدث في الداخل الي الخارج وتعريف العالم بوحشية وقمعية النظام التونسي البائد ' وساهم مع قناة "الجزيرة" دون سواها بشكل فعال في دعم الثوار وربط الشعور الوطني التونسي المفتت ' وإشعار كل تونسي بأنه ليس وحده يقف محتجا ولكن يقف معه كل أبناء شعبه في كل المدن والمحافظات وتقف معه الشعوب العربية بكاملها من الخارج. [email protected] Albaas.maktoobblog.com