دولة في الجنوب، وأخري في الشرق، وثالثة في دارفور.. جبهات تتشكل وحركات تطالب بالتحرر والانفصال.. كثيرة هي المخاطر التي تحيط بالسودان، منذ أن تمكنت 'الجبهة القومية الإسلامية' من استلاب كرسي الحكم قبل 25 عامًا، شهد خلالها هذا البلد الشقيق حروبًا في الجنوب انتهت بانفصاله، وصراعات في الشرق والغرب راح ضحيتها عشرات الآلاف. وفي الوقت الذي تتهدد فيه وحدة الأراضي السودانية شرقًا وغربًا، شأنها في ذلك شأن العديد من البلدان العربية، يفاجئنا النظام 'الإخواني' الحاكم هناك الذي أسهم بسياساته في انفصال نصف السودان الجنوبي بافتعال أزمة 'حلايب وشلاتين' مرة جديدة، حيث أعلنت المفوضية القومية للانتخابات السودانية أن 'حلايب' ضمن دوائرها الانتخابية. الأزمة قديمة جديدة كانت تفتعلها حكومات السودان المتعاقبة من وقت لآخر، كوسيلة لشغل الرأي العام السوداني عن تأزم الأوضاع الداخلية. في المقابل، كان النظام المصري يتعامل مع القضية بطريقة دبلوماسية تراعي العلاقات الأخوية والتاريخية بين الشعبين.. مكتفيًا بتقديم احتجاج رسمي عبر الخارجية المصرية لحكومة السودان، أو إصدار بيان تعلن من خلاله مصر رفضها أي مساس بحدودها التي أكدتها اتفاقية ترسيم الحدود بين مصر وبريطانيا في 19 يناير 1899، وتنص المادة الأولي منها علي أن الحد الفاصل بين مصر والسودان هو خط عرض 22 درجة شمالا. لكن في تقديري الأمر مختلف هذه المرة، ويحتاج لموقف حاسم بعيدًا عن الاحتجاجات والبيانات والملاسنات.. علي النظام المصري أن يضع 'المماحكات السودانية' بشأن 'حلايب وشلاتين' في سياقها الجديد، أو بالأحري في إطار مواقف النظام الحاكم السوداني المعلنة في السنوات الثلاث الأخيرة.. وألا يتعامل معها بمعزل عن انحياز نظام عمر البشير الإخواني إلي الجانب الإثيوبي في قضية سد النهضة، ودعمه الواضح للميليشيات الليبية الإرهابية.. وكلاهما يشكل خطرًا علي الأمن القومي المصري والعربي. لقد جاء الموقف السوداني الداعم للجانب الإثيوبي في قضية سد النهضة ليكشف عن توجهات النظام السوداني الجديدة، وتحوله من شريك استراتيجي لمصر إلي خصم، يتحرك ضد المصالح المصرية.. وهو ما عبرت عنه تصريحات الرئيس السوداني عمر البشير الصادمة والكاشفة لانحيازاته التي أعلن خلالها عن مساندته للموقف الإثيوبي بشأن بناء 'سد النهضة' باعتباره يحقق فائدة كبيرة لبلاده في مجال الحصول علي الكهرباء!! متجاهلا تأثيره علي الأوضاع المائية لمصر والسودان. ليس هذا فقط، بل تعدي الموقف السوداني مجرد الموافقة علي بناء السد إلي التسويق له، والدعاية للجانب الإثيوبي علي حساب الجانب المصري. ومؤخرًا كشف نظام البشير عن وجهه وتوجهه الحقيقي، كذراع للتنظيم الدولي للإخوان، عندما أعلنت الصحف ووكالات الأنباء السودانية عن الاتفاقية الأمنية التي تم توقيعها بين السودان وإثيوبيا وتنطوي علي تشكيل قوة عسكرية تخضع لقيادة مشتركة من الجانبين يكون هدفها الأساسي هو حماية سد النهضة الإثيوبي من أي اعتداءات أو أعمال تخريبية محتملة تستهدف مشروع السد.. وهو تصعيد إثيوبي سوداني خطير خاصة بعد لقاء الرئيس عبد الفتاح السيسي مع رئيس وزراء إثيوبيا، الذي أكد فيه أن مصر تتبني الحل السلمي والتفاوضي لمشكلة سد النهضة. الموقف السوداني من سد النهضة لم يكن خلافًا عارضًا، في وجهات النظر بين القاهرة والخرطوم بشأن قضية ما بل تشير الوقائع المختلفة إلي تبني نظام البشير بحكم الانتماء الأيديولوجي خيارات تنظيم الإخوان، التي تهدف لإشعال المنطقة، وتمثل خطرًا علي الأمن القومي المصري والعربي. فقبل فترة احتجت الحكومة الليبية المؤقتة، علي الدعم الذي يقدمه النظام السوداني للميليشيات الإرهابية المناوئة للسلطات الليبية وطالبت بسحب الملحق العسكري السوداني من ليبيا باعتباره شخصًا غير مرغوب فيه. وكشفت الحكومة الليبية عن رصد طائرة نقل عسكرية سودانية دخلت المجال الجوي الليبي دون إذن.. كانت محملة بشحنة من الذخائر لم تطلبها الدولة الليبية ولم تكن علي علم بها أو تنسِّق فيها مع السلطات السودانية. وأكدت ليبيا أن الطائرة توجهت إلي مطار 'معيتيقة' في العاصمة الليبية طرابلس الذي تسيطر عليه ميليشيات إسلامية متشددة تابعة لقوات 'فجر ليبيا' التي تنحدر في مجملها من ميليشيات مدينة مصراتة.. مشيرة إلي أن الشحنة تم اكتشافها بعد توقف قائد الطائرة في مطار الكفرة الحدودي مع السودان للتزود بالوقود. واعتبرت الحكومة الليبية أن هذا العمل من قبل الدولة السودانية يتجاوز الدولة الليبية ويتدخل في شئونها ويقحم السودان كطرف داعم بالأسلحة لجماعة إرهابية تتعدي علي مقدرات الدولة الليبية.. وطالبت المجتمع الدولي ومجلس الأمن بمساعدة البلاد في مراقبة أجوائها لمنع تكرار مثل هذه الاختراقات التي تعمل علي تأجيج الصراع والاقتتال الليبي الداخلي. إثارة السودان لقضية حلايب إذن تتعدي كونها أزمة عالقة بين البلدين، ولا يمكن اعتبارها محاولة سودانية لافتعال أزمة خارجية للتغطية علي مشكلاتها الداخلية، بل بات واضحًا أن النظام الإخواني الحاكم في السودان الشقيق ينحاز إلي توجهات المحور 'القطري التركي'، وسياساته الرامية لإشعال المنطقة. المسألة ليست أزمة حدودية بين مصر والسودان عنوانها 'حلايب وشلاتين'، فالقضية منتهية، ومصر تبسط سيادتها علي المنطقة سياسيًا وعسكريًا بشكل فعلي وكامل منذ عام 1995، فضلا عن أن العلاقات التاريخية بين الشعبين كفيلة بتجاوز أي خلاف.. لكن المشكلة الحقيقية في نظام يحكم السودان وفق أجندة التنظيم الدولي للإخوان.. ويتبني خيارات تتعارض مع الأمن القومي المصري والسوداني والعربي، وهو ما يجب حسمه أثناء زيارة عمر البشير المرتقبة إلي مصر. المصريون ينتظرون في البداية قالوا: إن ملايين المصريين الذين خرجوا إلي الشوارع يوم 30 يونية يطالبون بإسقاط مرسي وحكم المرشد، بضعة آلاف من المسيحيين والعلمانيين وفلول الحزب الوطني، وإن المسألة مجرد 'ثورة فوتوشوب' صنعها المخرج خالد يوسف للانقلاب علي الشرعية!!. خرج المصريون مرة أخري بالملايين يوم 26 يوليو في مشهد مهيب يفوق ما جري يومي 30 يونية و3 يوليو، ثم خرجوا يومي 14 و15 يناير للاستفتاء علي الدستور الجديد، ليؤكدوا في كل مرة شرعية الثورة العظيمة التي اقتلعت الإخوان من مصر، وكتبت شهادة وفاتهم. راهنوا علي المشكلات الاقتصادية المتفاقمة، تصوروا أن ضيق المعيشة، وتلاحق الأزمات سيحرض الناس علي الثورة من جديد.. لكن الشعب المصري الذي يتألم من الفقر وضيق ذات اليد، أعلن صموده في وجه ظروفه الاقتصادية، ليؤكد من جديد انحيازه لاختياره في 3 يوليو، وإصراره علي استكمال مسيرته. ثم جاء الإقبال الكبير علي البنوك لشراء شهادات قناة السويس، التي وصلت حصيلتها حتي كتابة هذه السطور إلي 40 مليار جنيه، ليؤكد من جديد، شرعية الثورة، وإصرار الشعب المصري العظيم علي خوض معركة الاستقلال الوطني التي بدأها بالنزول إلي الشوارع والميادين في 30 يونية. لقد كتبت من قبل وقلت: 'إن المصريين لن يتنازلوا عن حلمهم في وطن قوي ولن يفرطوا في دماء شهدائهم.. وفي كل مرة يحتاج فيها الوطن إلي نزول المصريين سينزلون.. إلي ثورة المصريين سيثورون.. إلي جهد وتضحيات المصريين سيجتهدون ويضحون'. المصريون يقدمون كل ما لديهم، ويبرهنون في كل مرة علي وطنيتهم، وثقتهم في النظام الجديد.. لكن علي قدر الصبر والجهد والتضحيات، ما زالوا ينتظرون.