'مش ياللا بقي نشوف شغلنا!!'.. لزمة التصقت بلسان ولم تفارقه ساعة واحدة منذ عُين قبل منتصف الثمانينات من القرن الماضي رئيساً للقطاع الهندسي بشركة المقاولات الكبري، والتي قضي بها سبع سنوات استطاع خلالها أن يحقق أعظم إنجازات في تاريخ الشركة الطويل، حتي أنه عندما شاع خبر اعتزامه السفر للعمل كمستشار لحكومة إحدي الدول الخليجية أصيبت كافة الإدارات والمواقع بالهلع والارتباك، مما دفعه لتأجيل قراره لمدة ستة أشهر كاملة تمكن أثناءها من إنهاء جميع المشروعات المعلقة والتي كان من بينها ما لم يحن بعد موعد تسليمه آنذاك، وكذلك الاتفاق مع صديق عمره وزميل دفعته في الفنية العسكرية، والذي يشبهه جداً في الدقة والانضباط ليحل محله. وحازم مدكور أو اللواء مدكور كما كنا نسميه ينحدر من عائلة عريقة وثرية بكفر الشيخ، ومتزوج وله ابنتان.. الكبري خريجة الجامعة الأمريكية وتعمل في أحد البنوك، والأخري مصابة بضمور في المخ منذ ولادتها، وصبي لا يزال في المرحلة الإعدادية.. كان حازم مدكور عقيداً بسلاح المهندسين أيام حرب اكتوبر، وأحد مصابيها الذين كُرموا.. حصل علي رتبة عميد وخرج من الخدمة، ثم خاض رحلة علاج في مصر والخارج استغرقت ثلاث سنوات، قدر الله له أن يعود بعدها طبيعياً إلي الحد الذي يُمكنه من العمل، وسافر إلي السودان لبضع سنوات كمدير إقليمي لإحدي المؤسسات المتخصصة في الصناعات الهندسية، والتي تركها إثر قيام صاحبها رجل الأعمال السوداني بتصفيتها، ونقل جميع أنشطته إلي استراليا بعد إلحاح مستميت منه أن يرافقه في حياته الجديدة، لكنه رفض.. وعاد إلي مصر ليتولي أهم القطاعات بشركتنا. هذا ما رواه لنا صادق محمدين الذي خلفه بعد سفره، حيث لم يكن اللواء مدكور يتحدث معنا في أي أمر خارج نطاق العمل.. ذلك الرجل الخمسيني الوسيم، ذو البشرة القمحية، وملامح صقرية صارمة ترتسم علي وجهه المثلث الذي تعلوه جبهة عريضة يكسوها شعر ناعم مهذب، استسلم لهجوم كتيبة من الشيب احتلت في طريقها بعض المواقع علي شاربه وسالفيه. كان مدكور يجلس علي مكتبه في تمام السادسة تقريباً من صباح كل يوم أي قبل حضور الموظفين بحوالي ساعتين، وبمجرد اكتمال العدد يبدأ الاجتماع الصباحي القصير الذي ما أن ينتهي حتي يطلق عبارته التلقائية: 'مش ياللا بقي نشوف شغلنا!!'. كان يضع أمامه دائماً مجموعة من الأوراق، وطقم أقلام مصنوعة من الذهب، تحمل علامة إحدي الماركات الشهيرة، والحروف الأولي من اسمه بالإنجليزية، إلي جانب قلمي رصاص خشبيين، وممحاة، ومبراة صندوقية مثبتة علي طرف مكتبه، ومفكرتين واحدة تتغير سنوياً ومفتوحة دائماً علي تاريخ اليوم ومسجل بها مجموعة من المواعيد والملاحظات والأرقام، وأخري 'مريبة' عبارة عن كشكول كبير موضوع داخل غلاف ثمين من جلد التمساح الطبيعي مصبوغ باللون البندقي ومطوية في معظم الأحيان، يفتحها من وقت لآخر لتدوين بعض الأشياء ثم لا يلبث أن يحكم إغلاقها وخاصة لو أتاه أي شخص لمناقشته في أمرٍ ما فيسارع بطيها علي الفور، وفي حال تركه لمكتبه لأي سبب ولو لدقائق بسيطة كان يسكنها داخل أحد أدراجه قبل أن يوصده بالمفتاح ويضعه في جيبه!! ومنذ الأسبوع الأول له في الشركة تخلي اللواء مدكور عن حجرته الفخمة بأثاثها الوثير، وطلب نقل مكتبه ومقعده فقط ليحتلا نهاية الدور المخصص للإدارة في الجهة المقابلة للباب، بعد أن أمر بإزالة جميع الجدران الخشبية التي تفصل حجرات المكاتب عن بعضها ليتمكن من رؤية كل شيء بعينيه، ومتابعة أداء جميع المهندسين، والاطمئنان لحظة بلحظة علي سير العمل، وهكذا تحولت هذه المساحة الفسيحة إلي محل للعمل ولا شيء غيره، فلا أصوات إلا لأذرع الآلات الكاتبة ورنين هواتف معدودة خصصت لبعض الموظفين وأحاديث محدودة في صميم العمل، وما عدا ذلك يكاد لا يذكر.. ومع ذلك يردد بصوت مسموع لزمته المحفوظة: 'مش ياللا بقي نشوف شغلنا!!' كان مدكور في أعيننا رجلاً غامضاً وخاصة بسبب 'البندقي' وهو الإسم الحركي الذي ابتكرناه قاصدين به المفكرة 'اللغز'.. وكان أيضاً كائناً جامداً لم يُضبَط مبتسماً، أو حتي حزيناً، أو غاضباً ولو لمرة واحدة.. كان متفرداً في صفتين: كفاءته وبراعته وقدراته الخارقة في حل المشكلات، وجرأته الفائقة في مواجهة التحديات، والصفة الأخري هي مشاعره المتحجرة، وقلبه المتيبس في المواقف والتعاملات الإنسانية.. فقد كان يمارس سلطاته شبه المطلقة، ونفوذه الواسع المستمد من ثقة مجلس الإدارة في شخصيته لتنظيم وتحديد معايير الإجازات العارضة، والمرضية، والسنوية بأقصي درجات العدالة.. ولكن دون أدني اعتبار للجوانب العاطفية. فلم يكن يذهب لتقديم واجب العزاء في وفاة أي من أهل أو أقرباء العاملين، بل أنه لم يحضر جنازة مَن توفاهم الله من العاملين أنفسهم.. وبالطبع فهو لا يزور المرضي منهم، ولا يشارك بحضوره حفلات الخطوبة والزفاف، ويكتفي بإرسال تلغرافات التعزية أو التهنئة أو باقات الورود، ولا يسمح بالتغيب أكثر من مجرد يوم في حالات الوفاة، وأسبوع واحد في مناسبات الزواج، في حين يمنح بعض الاستثناءات المقننة لظروف الحمل والولادة.. ولكن المدهش بالنسبة لنا هو حرصه علي تقدير المكافآت والحوافز لكل العاملين بنفسه وبمنتهي السخاء!! وكذلك مسارعته بالتواجد قبل أي مخلوق في مسارح الأحداث الدرامية المفاجئة والمرتبطة بالعمل، كحادثة اللغم الذي انفجر بأحد مواقع الشركة بمطروح وأودي بحياة ثلاثة من عمال اليومية البسطاء وإصابة ستة آخرين، وحادث طريق الفيوم عندما انقلب أحد جرارات الشركة ومات السائق ومن معه، وأخري عندما سقط أحد المهندسين صريعاً من الدور السادس ببناية ضمن إحدي المدن السكنية التابعة للشركة، وفي جميع تلك الحالات ومثيلاتها كان يُشرف بنفسه علي نقل المصابين إلي المستشفيات، ويودع الضحايا حتي قبورهم مواسياً أهاليهم المكلومين!! غير ذلك فالرجل هوالرجل كما هو في أعيننا جامداً في ملامحه.. قاسياً في طباعه.. غامضاً في أفكاره ومفكرته البندقي.. كان يبدو هكذا حتي مع نفسه وأسرته.. ففي يوم زفاف ابنته قام بإجازة لمدة يوم واحد هو يوم الفرح الذي لم يدعُ إليه أحد من العاملين بالشركة علي جميع مستويات الإدارة بحجة أنه حفل ع الضيق في عزبة والده بالبلد، إلا أن رئيس مجلس الإدارة والعضو المنتدب ومعهما بعض قيادات الشركة أصروا علي الحضور. وحدث أننا خلال الشهر الأخير لمدكور قبل رحيله إلي الإمارات كنا نستعد لتسليم واحد من أضخم المشاريع في مصر، والأضخم في تاريخ الشركة، وفي صبيحة اليوم المحدد لذلك ذهب جميع العاملين بالقطاع من بيوتهم إلي الموقع مباشرة كتعليمات مدكور للتحضير لاستقبال رئيس الوزراء والوزراء والمحافظين المعنيين، علي أن يلحق بهم التسع مهندسين المتبقيين وأنا من بينهم يتقدمنا اللواء مدكور، وبالتالي فلم يحضر سوانا إلي الشركة.. كنا وقوفاً أمامه وهو جالساً علي مقعده يلقي علينا بالتوجيهات الأخيرة الخاصة بحفل الافتتاح، بينما كان يتحسس شاربه بإحدي يديه، وبأصابع الأخري يدقدق علي المفكرة البندقي، وإذ برنين التليفون المباشر لرئيس مجلس الإدارة يقطع كلامه، فرفع السماعة إلي أذنه، وأدار وجهه محملقاً في لا شيء، ثم نهض فجأة ناطقاً بجملة قصيرة حاسمة: حالاً هكون عند حضرتك.. وضع السماعة وأسرع نحو الباب ونحن خلفه متسائلين: خير يافندم؟! رد وهو يهرول: سيادة الريس هيحضر الافتتاح!! نحاول اللحاق به قبل ركوبه المصعد للتأكد مما سمعناه: الريس مبارك؟! يدخل المصعد مجيباً وظهره إلينا: أيوه وينغلق الباب، ويقف الجميع متسمرين في أماكنهم والمشاعر تتأرجح بين الرهبة والفرحة.. أنسحب من بينهم ومعي زميليَ مجدي وإسلام ونعود إلي مكاتبنا بخطوات متلكئة، ونظرات زائغة في كل اتجاه لستة أعين ما لبثت أن استقرت جميعها معاً وفي نفس اللحظة علي المفكرة البندقي المطوية فوق زجاج مكتب اللواء مدكور، وكما لو كنا اكتشفنا سر مثلث برمودا.. وإذ بنا نتحرك بخطوات منتظمة صوب المفكرة وكأننا كنا علي اتفاق مسبق!! كنت أول من أمسك بالمفكرة.. تلمستها بأناملي وكنت علي وشك ضمها إلي حضني من فرط فضولي المزمن عبر سنوات لمعرفة ما بها.. فتحتها وأخذت أقلب أوراقها بحرص لئلا تصاب إحداها بمكروه، كنا ننظر لبعضنا البعض لعل أحدنا يفسر لنا ما نقرأ ولكن دون جدوي فنعاود فر الورق بتركيز حتي صاد انتباهنا مجموعة من القصائد بالعامية والفصحي، مفعمة بأحاسيس دافئة لا تتوافر سوي للشعراء الحالمين، ومسطر أعلي كل منها عنوانها وتاريخ كتابتها، استوقفتنا واحدة مدون علي هامشها: كتبتها بمناسبة فرح نانا بنتي الخميس 1990/9/6.. وتقول كلماتها: أنا رايح اجوز بنتي وراجع اجهز في الباقيين م الليله خلاص انتهي مشوار وابتدوا مشاوير تانيين ماهي شيله تقيله حقيقي انما دي أمانه ولازم توصل يعني ماينفعش نسيبها ونجري ويحصل زي ما يحصل دول هما النعمة وهما النسمة وهما حبابي العين والفرحة الطارحة غناوي تهون أيامنا الجايين ******* أنا رايح اشوف الهنا ألوان في عيون أطعم بنوته وارقصلها بالنبوت واحلف لاسمع مليون زغروطه وأطيب خاطر أجمل أم بتبكي في أحلي فراق أصل البكا ساعة الفرْح في دمنا عشش زي الداء من كتر ما عشنا سنين حكايات خلصت بايخه وملتوته بنطير لو حنت دنيتنا وضحكت آخر الحدوته ******* وانا رايح عمري لمحته معدي قصادي كأنه شريط تجري الأفكار وتهدي تجيب وتودي في حلم بسيط والليله خلاص اتحقق كبرت اهو وعرفت تختار ده عريس راجل ومأصل واد مجدع ويفوت في النار طالب ولا يكترعلي ربنا يسعدكم واتمنيت يوهبكو سلام ومحبه وبركه تعمر كل البيت وانا رايح اجوز بنتي وهما تسع تشهر ويعدو وبإذن الله بعديها تباركولي وتقولولي ياجدو ******* وعدت أقلب في الصفحات لأجد قائمة بأسماء عدد من العاملين المتوفين مكتوب تحتها: تمت الموافقة علي طلبي بمضاعفة مكافأة نهاية الخدمة والمعاش الشهري لأسرهم!! وفي الصفحة المقابلة قائمة بضحايا الحوادث مكتوب تحتها أيضاً: تمت الموافقة علي طلبي بصرف تعويض فوري لأسرهم، ومعاش استثنائي، ومضاعفة مكافأة نهاية الخدمة!! وفي منتصف المفكرة تصدر الصفحة عبارة 'مصاريف شخصية' كتب أسفلها: تم سداد مبلغ 3000 جنيه باسم مستعار للطبيب المعالج للمهندسة عايدة حنا لإجراء الجراحة اللازمة لها!! يليه: 1500 جنيه تليفزيون 20 بوصة هدية من مجهول للمهندس عادل حسنين بمناسبة زواجه!! يليه أرقام مشابهة لأسماء عدد من العاملين، وأخري لأسماء غير معروفة.. يبدو أنها لأشخاص من خارج الشركة!! وفي الصفحة المقابلة قائمة بأسماء ضحايا الحوادث وأمام كل منهم مبلغ 5000 جنيه تبرع شخصي يُسلم لذويهم بواسطة وحيد صبحي.. ومن المرجح أن هذا الشخص كان الوسيط المؤتمن من اللواء مدكور في أعماله الخيرية. ويبدو أننا اكتفينا بما اطلعنا عليه من خفايا مستورة.. طويت غلاف المفكرة البندقي ووضعتها علي سطح المكتب بنفس زاوية الميل حتي لا يلحظ اللواء مدكور أي تغيير، وما هي إلا ثوان معدودات وانفتح باب المصعد ليخرج منه الرجل الذي لم يعد غامضاً ليجدنا لا نزال مبهوتين، فينكزنا بلزمته العبقرية: مش ياللا بقي نشوف شغلنا!!