كم من مرة حاولت أن أقرأ ما يطلق عليه النقاد.. الروايات الأكثر مبيعًا 'Best siller' ولكنني كنت دائمًا ما أصاب بالفشل والارتباك.. فلا استطيع أن أكمل هذه الرواية أو تلك.. ربما للركاكة البادية في اللغة المستخدمة ناهيك عن استخدام الألفاظ السوقية والأقل منها!! أو ربما للنفس الاستهلاكي الفج، والسطحية المبالغ فيها.. والتي تنضح بها من الأوراق الأولي.. أو ربما للشوشرة الفكرية التي تتبدي بفكرة من هنا، وفكرة من هناك.. ولا أحد يدري أو يحاسب أو يأخذ باله!! وكأنها وجبة غذائية أعدت علي عجل.. تشبه 'التيك أوي' الأمر يبكي.. سريعة الإعداد.. عديمة الفائدة.. والتي غزت أسواقنا من المدينة إلي الريف.. ولهذا تصيبني يتلبك معوي حاد.. الأمر الذي يؤثر علي نفسيتي ومعنوياتي.. وبالتالي هجرتها منذ زمن 'السداح مداح في عصر السادات!. وفي حوار صريح مع وزير الثقافة 'د.جابر عصفور' أكد أنه كناقد رأي منذ سنوات.. أننا نعيش عصر 'الرواية'.. لأنها بدورها تعيش أزهي عصورها في التنوع والثراء.. رغم أن توزيع الكتاب محدود، وهو لا يتجاوز ال5 آلاف نسخة فيما عدا روايات الشامخ نجيب محفوظ، وكتب محمد حسنين هيكل.. وستدرك قائلًا: فيما عدا روايات ال'Best siller' التي قد تتجاوز ذاك الرقم.. ومنها روايات 'أحمد مراد' والتي نحن بصدد الكتابة عنها الفيل الأزرق لكنها ليست بالضرورة روايات جيدة أو مكتملة الأركان!!. وفي ظل انقطاع التيار الكهربي الذي يداهمنا الآن.. ويكاد أن يحول حياتنا إلي هلاوس سمعية وبصرية، من غليان الروح والبدن.. فلا تستطيع معه سوي أن تهرب من المنزل، وتخرج إلي الشارع الملتهب.. لتذهب إلي أي مكان عام.. عله لا يعاني هذا اللهيب! فتستمتع بنسخة هواء من 'مكيف' يعمل بانتظام ليرطب حنقك، وزهقك، واختناقك من هذه المعاملة المذلة للمواطن المصري، الذي يشعر معها بأنه غير آدمي.. بل لا لزوم له.. فكيف له أن يتحمل انقطاع كهرباء يدوم لساعات طوال في ظل حرارة تصل إلي 40 درجة.. ولا يعرف حتي متي تنقطع أو متي تعود.. ناهيك عمَّا هي الأسباب؟!، وكأننا صرنا أشباحًا تواجه أشباحًا.. لا أحد يسمع، ولا أحد يجيب!!. وبدا لي أن التيار الكهربائي يرتدي 'طاقية الإخفاء' علي الطريقة الهزلية في الأفلام المصرية القديمة.. وربما هذا ما دفعني للذهاب للسينما.. ومشاهدة فيلم 'الفيل الأزرق' الذي كتب السيناريو مؤلف الرواية 'أحمد مراد'.. وتذكر عزيزي القارئ أنها من الرواية التي تنتمي لل'Best siller'.. وقد استوفني في مشاهدة الفيلم شيئان لا يمكن إغفالهما.. الأول أن التيار الكهربائي.. انقطع أكثر من مرة في قاعة السينما المكتظة بالجمهور.. الأمر الذي جعلني أصرخ داخل نفسي.. هل هناك استهتار بأمن الناس والمواطنين أكثر من هذا؟! أم الأمر الثاني فيكاد يكون نسبة الشباب الصغير واليافع يشكل الغالبية العظمي لجمهور هذا الفيلم.. الأمر الذي يشكل خطورة خاصة بعد أن تعرف عزيزي القارئ أن الفيلم يتقاطع مع العلم والمعرفة، والاستنارة.. وهو يؤكد وجود عالم الجن والعفاريت التي تتلبس الإنسان وتجعله أرجوحة وأداة طيعة.. أبعد ذلك خزعبلات تعبث بعقول شبابنا وأبنائنا؟!. نعم يتمتع الفيلم 'بتكنيك' فني مبهر، وأسلوب فني شيق ومثير من خلال حبكة بوليسية تكتم معها الأنفاس، ويتنافس معها النجوم بأداء متميز من كريم عبد العزيز إلي خالد الصاوي إلي نيللي كريم. ويتمتع الفيلم أيضًا بتقنيات عالية في عالم الحيل السينمائية والتحريك والموسيقي مما يجعله إضافة للمخرج الشاب 'مروان حامد'.. لكن ما الذي يرغب أن يقوله الفيلم؟!.. تلك هي المعضلة.. وكأنك حيال قطعة سكر لكنها مغموسة عن آخرها بسم زعاف وقاتل.. نعم إنه قاتل للفكر والمعرفة والاستنارة الحقة إذا كنا نرغب في ذلك كما يصرح وزير الثقافة ويطالب بها المثقفون بعد الثورتين!!. ماذا يقول الفيلم؟ أو ماذا تقول الرواية؟ لعل الفيلم هو الرواية، والعكس صحيح.. خاصة الذي تولي كتابته 'أحمد مراد'.. لكن لأن الفيلم أوسع انتشارًا من الرواية.. فقد راعي مراد أن يجعلها 'Happy end' أي نهاية سعيدة أو مريحة، وصريحة في الفيلم دون مواربة أو التباس وتأرجح كما هو قائم في الرواية التي تحتشد بالهلاوس، وتؤكد وجود 'الجن' و'العفاريت' التي تزهق الأرواح علي أرض الواقع كما أزهقت روح المرأة العجوز التي قامت برسم الوشم أو 'Tato' 'النجس' علي فخذ المرأة المنتحرة أو التي قتلها الجن!!. ملخص الحكاية.. أننا إزاء طبيب نفسي 'د.شريف' يعود لممارسة عمله في مستشفي 'العباسية' بعد انقطاع دام خمس سنوات.. تعرض فيها إلي أزمة عاتية.. جعلته أقرب إلي المدمن 'مخدرات ومسكرات' بعد أن فقد الزوجة والابنة الصغيرة في حادث تصادم كان هو أحد أسبابها لتعاطيه الخمر! وديونه تجبره علي العودة إلي العمل.. أو الفصل من العمل يختار العودة وللمصادفة المحضة.. حيث قوانين الميلو دراما الحادة، يعمل في قسم '8 غرب' الخاص بالحالات الحرجة والمستعصية.. ليفاجأ أنه أمام صديقه د.'يحيي الكردي' الذي يبدو من هيئته أنه يعاني انفصامًا بعد أن حول جسده وحلقة رأسه إلي مساحات من الوشم الغريب الشاذ. نعرف أن د.'يحيي' ود.'شريف' جمعهما نزق الحياة والسباحة ضد التيار.. وفي المواجهة يتبرأ شريف من شريف ليعلن أنه شخصية أخري.. ويعاير 'يحيي' بماضيه.. بل يشمت فيه بعد أن رفض شريف جوازه من أخته!!. ونعرف أيضًا أن حكم التهمة الموجهة إلي د.شريف بعد مقتل زوجته إما الإعدام وإما الحياة في هذا السجن لأمد طويل بعد أن يثبت مرضه بالفصام أو الشيزوفرنيا. ويحيي يحاول بكل الطرق أن ينقذ شريف من حبل المشنقة.. ويدخل في صراعات شتي، وهلوسات يحاول المؤلف أن يمنحها شكلًا تراثيًا أو تاريخيًا خاويًا من أي مضمون اجتماعي أو سياسي.. اللهم سوي التركيز بالأساس علي عالم الجن والعفاريت والشياطين.. القادم من أحشاد الفترة المملوكية حتي وقتنا الراهن.. كما يؤكد ما اقتبسه من كتاب الجبرتي 'عجائب الآثار' ليخرج د.يحيي بحقيقة مؤكدة يعلنها للمديرة والأطباء.. بأن د.'شريف' ملبوس أو ممسوس.. أي تقمصه 'جن' وأن ذلك الجن هو الذي يرتكب كل الجرائم والموبيقات!!. زد علي ذلك عزيزي القارئ.. أن د.يحيي نفسه صار يشك في نفسه وكونه هو المريض وليس د.شريف خاصة بعد أن لقت إحدي عشيقاته مصرعها بعد تناولها حبة هلوسة أطلق عليها الفيل الأزرق أو 'DMT' وهو يتعاطاها لتهيئ عقله عنوة علي الانتقال من العالم الواقعي إلي العالم الغيبي المبهم بعد الموت.. عالم البرزخ فيستطيع العقل استيعاب ما هو مقدم عليه.. كما جاء في سطور الرواية صفحة 255. إن د.يحيي في رحلته الواسعة من مستشفي الأمراض العقلية إلي تاريخ الجبرتي.. إلي الهلوسات القائمة علي قدم وساق.. يؤدي بنا إلي متاهات.. تؤكد وجود الجن الذي يتلبس الإنسان.. وقد دفعتني هذه الخزعبلات إلي تذكر تلك الصيحات الغيبية الضالة، والتي من شأنها تغييب الإنسان عن واقعه.. وعن مواجهته تحديات حاضره.. إلي ما فعله 'أنيس منصور' في أعقاب هزيمة 67.. ودعوته في استحضار الأرواح عبر 'سلة' وقلم و'ورقة' بيضاء.. وما علي الذي يرغب في استحضار أرواح 'الشهداء' إلا أن يكون بعض الظلام والأوراد والأدعية حتي تأتي ويسألها عما يعن له.. وقد ثبت بعد ذلك أنها محض أوهام وخيالات ضالة! فهل نحن إزاء إعادة إنتاج مثل هذه الخزعبلات مرة أخري، حتي لو جاءت في ثوب جديد؟!. أخشي ما أخشاه أن يندفع البعض خاصة الفئات الصغيرة في العمر والمعرفة والثقافة.. إلي الاعتقاد في الجن والعفاريت.. لندخل في متاهات وترهات لا أول لها ولا آخر.. لتحل الهلوسات مكان العمل.. والشعوذات مكان الفعل والإرادة الإنسانية.. وقديمًا قالوا ما عفريت إلا بني آدم. أما اليوم فهناك من يؤرخ للجن والعفاريت.. ونحن نتساءل: لصالح من تنطلق تلك الهلوسات؟!