قبل سنوات ساقتني الأقدار لأداء صلاة الجمعة في إحدي 'الزوايا'، دخلت متأخرًا فلم أستمع للخطبة من البداية، وبمجرد أن جلست فوجئت ب'الخطيب' يقول: 'بعد أن جمع الإمام البخاري الأحاديث النبوية من شتي بقاع الأرض، وضع ما جمعه من أحاديث في إناء به ماء، فطُمست الأحاديث 'الموضوعة'، وبقيت الأحاديث 'الصحيحة'، وهو ما جعل صحيح البخاري أصح الكتب بعد القرآن الكريم'. تحدثت مع الخطيب بعد الصلاة، مبديًا اندهاشي من الرواية التي رواها، ومصدرها، فقال: هذه من الحكايات المتواترة. قلت له: حضرتك قللت مما فعله الإمام البخاري، والجهد البحثي العظيم الذي قام به، فقد تنقَّل بين مختلف الأقطار العربية، من مسقط رأسه بخاري إلي مكة ومنها إلي مصر وبلاد الشام وغيرها، يستقي الأحاديث من رواتها الثقات. ثم سألته: حضرتك أزهري يا مولانا؟.. فقال: لا.. أنا 'طعمجي'.. ببيع طعمية!!. تذكرت هذه الواقعة وأنا أقرأ التقرير الذي نشرته الزميلة 'اليوم السابع' عن حصيلة عمل اليوم الأول لتطبيق قانون قصر الخطابة علي الأزهريين، حيث نقلت الصحيفة عن مصدر بوزارة الأوقاف قوله: 'تم استبعاد 12 ألف إخواني غير مؤهلين للخطابة من الحاصلين علي دبلومات وشهادات غير أزهرية، و14 ألف سلفي كانوا يخطبون بمساجد الجمعيات المجمدة أرصدتها وضمتها الأوقاف'. رقم مفزع، جيش من الخطباء غير المؤهلين للخطابة، ظلوا يمارسون تشويه العقول منذ ثمانينيات القرن الماضي حتي الآن، والنتيجة حالة من التشويش والغيامة، تحوَّل معها الدين إلي مجرد شكل وطقس، ليس هذا فقط بل راح يوظف الكثير من الخطباء الدين لخدمة أغراضهم السياسية. وقد عشنا تفاصيل هذه المهزلة بوضوح علي مدي السنوات الثلاث الماضية فالاستفتاء علي الدستور في 2012 واجب شرعي علي كل مسلم، بل يجب أن يقول المسلم نعم لإرضاء الله ورسوله.. أما استفتاء 2014 فالمشاركة فيه حرام شرعًا، ومن يقل نعم فهو آثم!!!. لقد كتبت في يونيه 2009 قبل خمسة أعوام، مقالا بعنوان 'المواطن البالونة'، حذرت فيه من هذه الظاهرة التي لم تكن قد استفحلت إلي هذا الحد، واليوم أجدني مضطرًا لإعادة نشر جزء كبير منه، فالمسئولية لا تقع علي عاتق وزارة الأوقاف أو الأزهر الشريف أو الدولة فقط، بل نحن أيضًا مسئولون عن مواجهة حالة التردي التي أصابت الخطاب الديني علي يد المدَّعين والمغرضين والمدلسين، بالإعراض عنهم، وتحري الدقة فيما يلقيه البعض منهم علي مسامعنا في المساجد وعلي شاشات التليفزيون وغيره.. واللجوء دومًا إلي أهل العلم الحقيقيين. المواطن البالونة تخيل حضرتك إنك شعرت بدوار شديد.. دوخة يعني.. الموضوع اتكرر معاك.. فسألت جارك 'النجار'.. بلاش 'النجار'.. سألت صديقك 'المهندس'.. يا تري ممكن تكون الدوخة دي سببها إيه؟!!. صديقك 'المهندس'.. ولأنه متعلم تعليم عالي.. قالك: ماتخافش الموضوع بسيط.. حاول تنام كويس وتاكل كويس وتشرب كويس وما تفكرش كتير وما تزعلش كتير وسيبها علي الله إن شاء الله تبقي كويس.. ويا سلام كمان لو وصفلك الدوا وقالك خد من الحبوب دي قبل ما تنام. تخيل كمان لو الدوخة راحت بالصدفة.. وبدأت حضرتك توصف الوصفة دي لكل من يسألك أو يشكو لك من الدوخة!!. مش كده وبس.. تخيل كمان إن صاحبك 'المهندس' نسي موضوع الهندسة وتفرغ للقراءة في الطب.. وفتح عيادة يعالج فيها الناس!!. تخيل كمان معلش دي آخر مرة هتتخيل فيها إن المهندس اشتغل دكتور.. والنجار اشتغل كهربائي.. والترزي اشتغل سباك.... و.... إلخ. يا تري ممكن حياتنا يبقي شكلها إيه؟!!.. طبعا مشكلة.. وتبقي مشكلة أكبر لو تعاملنا بهذا المنطق مع الدين وأصبحنا نستقي أمور ديننا من المدَّعين وغير المؤهلين كما يحدث هذه الأيام وبشكل غير مسبوق. في التسعينيات كنا نسخر ونقول مطرب لكل مواطن.. أما الآن فأصبحنا نقول: داعية لكل مواطن!!. ولِمَ لا والمسألة سهلة وبسيطة؟.. اسمع شريطين.. وتصفح كام كتاب.. وافتي زي ما انت عايز.. وللأسف الناس هتصدقك.. مش كده وبس.. وهتلاقي نفسك ضيف علي الفضائيات.. والناس بتنتظرك في ميعاد الحلقة.. بتتصل بيك وتسألك.. وتسمع منك.. وتصدقك. البعض يري المسألة بسيطة وإيه يعني طالما الدعاة دول بيقولوا كلام حلو.. بيطالبوا الناس تصلي وتصوم وتزكي وتتبرع بهدومها القديمة للغلابة.. إيه المشكلة إن فنانة معتزلة تنصح الناس بالحجاب.. ولاعب كورة يقولهم لازم تصلوا جماعة زي ما بتشوفوا الماتشات جماعة.. إيه المشكلة؟ مش أحسن من قعدة القهاوي أو الوقوف علي النواصي!!. إيه المشكلة؟!.. الكل مستفيد.. الناس بترتاح بعد ما تسمع الكلمتين.. وشركات الاتصالات بتكسب الملايين.. والإخوة الدعاة بياخدوا اللي فيه النصيب بالإضافة طبعا للشهرة.. والكل مبسوط!! المسألة مسألة مبدأ.. ونمط تفكير وطريقة حياة.. كيف تذهب إلي الطبيب ليعالجك.. تلجأ إلي المحامي والمحاسب والمهندس والترزي والنجار والكهربائي لقضاء مختلف أمورك.. ولا تلجأ إلي عالم الدين لتعرف أمور دينك؟!. تستقصي وتسأل وتبحث عن الطبيب الاستشاري الذي يحمل الشهادات المختلفة من الجامعات العالمية قبل أن تلجأ إليه ليعالجك.. وتأتي لمسألة الدين تسمع فيها لكل من هب ودب!!!. الدين علم.. له أصوله.. وله جامعاته.. وله مناهجه.. من يري في نفسه أنه مشروع داعية أو يسعي لأن يكون عالم دين عليه أن يدرس.. يسهر الليالي يذاكر ويقضي أيامه بين أبحاثه.. ويجتاز الامتحانات ويؤهل نفسه لهذه الرسالة العظيمة. وإذا كان الطبيب والمهندس وكل مهني لا يمكنه أن يمارس مهنته إلا بعد الترخيص له بممارسة المهنة من جهات الاختصاص.. فما بالنا بالداعية الاسلامي الذي يخاطب العقول والمشاعر ويؤثر في الملايين ويتحدث باسم الفقه والشريعة. لقد وضع الشيخ محمد الغزالي شروطًا عديدة يجب أن تتوافر في الشخص الذي يتصدي للدعوة، حتي يستحق أن يخاطب الناس في أمور دينهم وهي شروط عديدة لا مجال لذكرها كلها.. لكن سأكتفي هنا بقوله: 'الدعوة إلي الله لا يصلح لها، بداهة، أي شخص.. إن الداعية المسلم في عصرنا هذا يجب أن يكون ذا ثروة طائلة من الثقافة الإسلامية والإنسانية، بمعني أن يكون عارفًا للكتاب والسنة والفقه الإسلامي والحضارة الإسلامية، وفي الوقت نفسه يجب أن يكون ملمًا بالتاريخ الإنساني وعلوم الكون والحياة والثقافات الإنسانية المعاصرة التي تتصل بشتي المذاهب والفلسفات'. كما قال رحمه الله: 'الداعية الذي يشعر بغربة في ميدان الأدب يجب أن يترك ميدان الدعوة لفوره، فإن الذي يحاول خدمة الرسالة الإسلامية دون أن يكون محيطًا بأدب العربية في شتي أعصرها إنما يحاول عبثًا، وأنّي لرجل محروم من حاسة البلاغة أن يخدم دينًا كتابه معجزة بيانية، ورسوله إمام للحكمة وفصل الخطاب؟!'. السؤال: أين هؤلاء الدعاة الجدد من هذه الكلمات، وأغلبهم يتحدث كالخواجات 'عربي مكسر' يرفع المنصوب وينصب المرفوع؟!.. وفي أي دين سماوي يتحول غير الدارسين أو غير المؤهلين إلي دعاة؟!.. في أي دين يتحول الأمر إلي مجرد سبوبة؟!!. لقد خلق هؤلاء الدعاة الجدد.. بالطبع أقصد الكثير منهم.. حالة من الشوشرة والعشوائية.. انعكست علي طريقة تفكيرنا، أصبحنا نهتم بشكل الدين ونبتعد عن المضمون.. الموظف يحصل علي رشوة ثم يقوم لأداء الصلاة في جماعة!!.. الفتاة تغطي شعرها وتعري جسدها!!.. الشباب يصومون رمضان ويحتفلون بالعيد في صالات الديسكو!!. حالة غريبة.. نثور لإساءة رسام معتوه لسيدنا محمد عليه الصلاة والسلام ونقاطع الدانمارك.. ولا نهتم بقتل الملايين من المسلمين في العراق وفلسطين وأفغانستان وفق خطط محكمة ومعلنة، وننفق المليارات سنويًا علي البضائع الأمريكية!!. الأمر يحتاج لوقفة حاسمة من المجتمع ومؤسساته وهيئاته وبصفة خاصة مؤسسة الأزهر العريقة، لمواجهة هذه الظاهرة المسيئة للإسلام.. علي الناس مقاطعة هؤلاء المدعين والالتفاف حول الدعاة الحقيقيين.. علي رجال الدين تطوير خطابهم الديني بما يلائم احتياجات الناس وعقولهم ويواكب العصر.. قبل أن نتحول بفعل البلبلة والتشويش إلي هياكل مسلمين ومجرد بالونات!!.