لعل ما كان يجري داخل الإخوان.. وتلك الملاحظات التي كان يهمس بها البعض حول الجهاز السري وقائده.. وقد تصاعد الهمس حتي أصبح تحريضا ونوعا من الوقيعة بين المرشد وقائد الجهاز.. وهو ما أرق العديد من القيادات.. ودفعها للتصعيد خاصة عمر التلمساني الذي أصبح المرشد الثالث.. وصلاح شادي الطامح والساعي إلي مقعد المرشد وأنصارهما.. وحرص الشيخ البنا علي مجاراتهم في انتقاد الجهاز السري وقائده.. ثم في نفس الوقت الابقاء علي السندي ودعمه.. واطلاق يده في الجهاز حتي رحل البنا نفسه.. ولا يمكن تفسير ذلك إلا بأنه كان ثمة علاقة خاصة.. متفق عليها.. علاقة مليئة بالأسرار والترتيبات بين الشيخ حسن البنا وعبد الرحمن السندي.. علاقة تسمح للمرشد بالتنصل من أي مسئولية عندما يفاجأ الإخوان بموقف غير متوقع ولا يوافقون عليه من الجهاز السري.. كما جري في حادث اغتيال الخازندار.. وأيضا انكار معرفة البنا أمام الدولة لأي شيء عن الجهاز السري.. وانكار أية علاقة به.. أو أي معرفة بمن يديره وبمخططاته وأهدافه.. أو حتي القَسَم الخاص به داخل بيعة الجهاز.. وهو ما جري فعلا بعد أحداث عام 1948 واغتيال النقراشي باشا.. وبيانات الاستنكار التي أطلقها البنا واتهم فيها من قاموا بتلك الجرائم أعضاء الجهاز السري بأنهم ليسوا إخوانا.. وليسوا مسلمين.. ويبدو أنه كان مطلوبا من السندي أن يحتمل ذلك.. نيابة عن المرشد.. ولم يكن السندي بقادر علي الاحتمال في كل مرة.. ومازال بعض الإخوان كعادتهم في الجدل العقيم يؤكدون أن المرشد لم تكن له علاقة بالجهاز السري.. ولا يمكن تحميله المسئولية عما جري من السندي.. بل إن عمر التلمساني يصرح أكثر من مرة بأن الجهاز السري انشئ لمحاربة الانجليز.. ولكنه انحرف عن مساره بسبب غرور السندي واستشعاره لقوته.. مع أن أكبر خصوم السندي وهو صلاح شادي قد اعترف في كتابه صفحات من التاريخ بأن المرشد كلفه بمصاحبته إلي اجتماع قادة النظام السري في مصر والأقاليم في منزل السندي.. 'ولم يكن المرشد قد أبلغه بمصاحبتي له.. ولذلك ظهرت علي وجهه الكراهية والامتعاض.. وصارح المرشد بأنه كان يلزم اخطاره بذلك مسبقا.. ' ويستطرد شادي: 'ربما كان للسندي الحق في هذا التحفظ، إلا أن الصورة التي انطبعت في نفسي من مواجهته للمرشد بهذا الشكل.. إنه كان يتحدث إليه كما لو كان الحديث بين ندين.. لا بين مرشد الجماعة وبين رئيس أحد أقسامها.. ' ولعل ذلك وغيره يؤكد لكل ذي عقل أن البنا كان يشرف بنفسه وبكل دقة علي الجهاز السري.. وأنه كان وراء خططه كافة.. وصاحب الأمر النهائي.. والكلمة الأخيرة في كل ما يصدر من الجهاز.. وأنه في مقابل جهد وقيمة السندي وجهازه كان يتنازل في علاقته مع الرجل عن الكثير من الشكليات والهالات التي وضعها الإخوان فوق مرشدهم وحوله. ومن المثير للدهشة والعجب.. أن ذلك الجبار.. عبد الرحمن السندي الذي تولي رئاسة الجهاز السري وعمره 23 سنة.. ووضع له الأسس والقوانين.. وبرامج التدريب.. وأساليب السرية والانضباط الحديدي.. حتي أصبح الجهاز نموذجا بالنسبة لعشرات ومئات التنظيمات الارهابية التي نشأت بعد ذلك.. وحتي اليوم.. عبد الرحمن السندي هذا الذي كانت مصر ودول المنطقة تهتز علي وقع أمر يصدره.. أو قرار يتخذه.. أو موقف يراه.. عبد الرحمن السندي هذا.. كان معتل الصحة.. مريض قلب.. يعاني من اضطراب صمامات القلب نتيجة حمي روماتيزمية.. منعته من استكمال دراسته الجامعية. كتب د.عبد العزيز كامل في مذكراته في نهر الحياة عنه قال: كنا زملاء في كلية الآداب.. التحقنا بها معا في العام الدراسي 36 1937، وكان عبد الرحمن بالنسبة إلينا علي شيء من اليسار.. يسكن شقة مستقلة من حجرتين في الجيزة.. وأثاثها طيب.. وجذوره من أسيوط من بني سند.. وكان بيننا هادئا وديعا.. لا تحس أنه ينطوي علي عنف أو شدة.. وكانت ظروفه الصحية سيئة.. وظهر أه يعاني من روماتيزم في القلب.. ولم يستطع بصحته هذه أن يتابع دراسته في الكلية، فأصبح موظفا في وزارة الزراعة.. ويتساء زميله وصديقه د.عبد العزيز كامل: انسان يعاني من مرض القلب.. كيف يكون مسئولا عن نظام عسكري سري يحتاج إلي مرور علي محافظات مصر.. وإشراف علي التدريب الشاق.. ورحلات خلوية بعيدة عن العمران.. لا تصل أخبارها إلي سمع الحكومة.. وفيها أصوات طلقات الرصاص.. وزمجرة أصوات المدافع والقنابل والألغام.. وأنواع المفرقعات.. وكيف تحول صحته دون متابعة الدراسة.. ثم تساعده علي الاشراف علي هذا الجهاز الخطير الذي يحتاج إلي أعلي درجات اللياقة البدنية والفكرية.. ويخلص من ذلك إلي أن الوضع بالنسبة للسندي عمليا كان لا يزيد علي انتحار تدريجي.. وقال عبد العزيز كامل: كنت أحس دائما أن هذه الصورة غير منطقية.. ولا يمكن أن تؤدي إلي نتائج منطقية.. ثم يضيف: مازلت أذكر مرة كنت أزوره، وكان عنده الأستاذ المرشد.. وعبد الرحمن بيننا في سريره.. ولفائف القطن تصنع قميصا له.. وهو ينظر إلي المرشد قريبا بعيدا.. قريبا بجسمه.. بعيدا بعينيه.. وكانت عيناه حتي في صمته تبدو كأن عليهما طبقة رقيقة من زجاج سحابي.. فإذا مرض أحسست أنه ينظر إليك من وراء ستار شفاف.. تحسه ولا تراه.. ورقاه الأستاذ المرشد ودعا له بخير.. وأوصاه بصحته.. وقبله في جبهته.. وخرجنا معا.. كانت صحة عبد الرحمن تتراوح بين الاقبال والإدبار.. ولكني كنت دائما أشعر أنه يشعل شمعة حياته من طرفيها.. وأن أحكامه محكومة بصحته.. ومازلنا نقترب من عبد الرحمن السندي.. وعالمه..