لا أحد يعلم كم كان الوقت بالضبط، لكن المؤكد أن النهار كان يؤذن بالغروب، وأن الشمس كانت تجمع ما تبقي من أشعتها فوق أسطح البيوت، بينما كان خليط من أبواق السيارات، وضجيج المارة، وسُحب الدخان يتدفَّق حيَّا في شوارع القاهرة، كانت الغرفة تسبح في ظلام دامس، وسكون قاتم، لا يقطعه غير رجع أنفاس 'علاء الأسواني'، وهو يغطّ في ثبات، لا تبدّده سوي حشرجة تتململ في صدره، بين الحين والحين. فجأة بدأت الطَرقات رقيقة علي باب الغرفة، ثم تعالت بقوة، فانتفض مذعورًا من نومه، وعلي صوته متسائلًا: من؟ من؟ ثم وجده أمامه ودون مقدمات، رجل مشدود القامة، يلفه الضباب، أحسّ للوهلة الأولي أنه كائن فضائي نزل بإسقاط جوي مباشر فوق سريره، قفز من فوق السرير وهو يفرك عينيه بشدة، وتكوَّم إلي جانب السرير وهو بين النوم واليقظة. ثم تفرَّس في زائره، وتبيّن له أنه يرتدي بذلة عسكرية، قبل أن يجمع ما تبقي في جسده من طاقة قائلًا: من أنت؟ جاءه الرد: أرجو أن تقوم وترتدي ثيابًا مناسبة. لم يسمع الرد بوضوح، فقد تصاعدت في رأسه صور أخري، فقال علي استحياء: أنا لم أرتكب جُرمًا، فماذا تريد؟ قال الرجل: لقد جئت لأحاورك، أنا رسول من جمال عبد الناصر. ردّد في رتابة: رسول لي من جمال عبد الناصر، تعني أن الزعيم عبد الناصر، أرسلك علي هذا النحو؟ قال الرجل: نعم، لماذا تبدو غارقًا في الدهشة؟ ألم تستحضره في مقال لك، وتستنطق لسانه بما لم يقل؟! مجرّد خيال كاتب. لكن ما أنت فيه الآن ليس خيالًا، ولك أن تراه حلمًا أو كابوسًا، لكنه حالة طبيعية، هل تتصوّر أن الشهداء في عللّيين وهم عند ربهم أحياء يُرزقون، يعيشون في عُزلة عمّا يجري بعيدًا تحت أقدامهم؟ لم أتصور ذلك. كل ما هناك أن الزعيم قد قرأ ما كتبت باسمه، وأن ألمًا شديدًا قد انتابه يشبه عَرَضًا قديمًا كان يعتصر معدته، كلما أبلغناه باستشهاد مقاتل خلال معارك حرب الاستنزاف. أنا لم أمسّ الزعيم بشيء، فهل كان ذلك من أجل المشير السيسي؟ بل من أجل مصر. إسمع 'بصوت آمر'، أنا أكاد أختنق، فقم وارفع هذه الستائر المُعتِمة، وافتح الشبابيك كي يدخل الهواء ويطرد هذه الروائح الراكدة، ثم احتسي ما شئت من القهوة، كي تدُب اليقظة في رأسك. مرّت دقائق وهو يجمع أطرافه بصعوبة ليشد الستائر ويفتح الشبابيك، ثم زحف إلي خارج الغرفة، وعاد مُمسكًا بكوب كبير من القهوة. أخذ في احتسائها بدفعات كبيرة متتالية، وقد أخذ يُحدِّق في وجه زائره، وهو مازال متشككًا في أنه هبط إليه من السماء. حاول أن يتقرّب من الرجل، قائلًا: وجهك ليس غريبًا. ربما رأيتني في صحيفة عابرة، أو مررت بتمثالي قرب ميدان التحرير، لكنك لم تكُ يومًا جنديًا أو مقاتلًا حتي تعرفني عن قرب، أنا الفريق أول عبد المنعم رياض. مرَّت لحظات صمت أخري، قبل أن يجمع 'الأسواني' ما تبقي عنده من قدرة علي المناورة، وأردف سائلًا: ولماذا اختارك جمال عبد الناصر بالذات؟ لم يختر الزعيم شخصي، ولكن تم اختياري ديمقراطيًا. 'مندهشًا' ديمقراطيًا! نعم، الحقيقة أن الألم لم يكن خاصًا بالزعيم عبد الناصر، فقد سرت حالته كالكهرباء في دوائر الشهداء جميعًا، وفي صفوف كل القادة والمحاربين علي امتداد تاريخ الوطن، وقد كان قرار الزعيم في البداية أن يأتي بنفسه، لكنهم أقنعوه، أن يدّخر نفسه لمهمة تليق بدوره التاريخي، وأن يتشاركوا في إرسال رسول عنه، وعنهم جميعًا، وقد تم التصويت علي عدد من الشهداء الذين تطوّعوا لهذه المهمة، وكنت من بينهم، وجاءت نتيجة التصويت لصالحي. وها أنت تراني أمامك. ساد صمت مُطبق، قطعه صوت ارتطام كوب القهوة بالأرض، بعد أن سقط من يد 'الأسواني' وتحوّل إلي شظايا. استأنف 'رياض' ما انقطع قائلًا: عليك أن تهدأ كي تنصت إلي ما جئت من أجله. لا أعرف كيف أهدأ وعيونك تحاصرني. أعطني أذنيك وركّز نظراتك في الحائط. أدار 'الأسواني' وجهه مستجيبًا إلي الناحية الأخري، دون أن يعلّق. مقدمة الرسالة التي أحملها تتضمّن عدّة نصائح أراد الزعيم أن تسمعها بعقلك لا بأذنيك. نعم أنا مُنصت. يقول الزعيم إنه ينصحك بأن تُفرّغ قلمك مما في جوفه من حبر، وأن تغسله جيدًا بحامض الكبريتيك، ثم تعيد ملأه بحبر وطني خالص، فلديه ما يؤكد أن الحبر الذي يملأ قلمك هو حبر أجنبي، وربما كان ملوثًا، وربما تم دسّه عليك. أنا أشتري الحبر من 'الفجّالة'. ويقول الزعيم إنه ينصحك بألا تضع علي عينيك أثناء الكتابة منظارًا مكبّرًا مستوردًا، لأنك لا تنظر من خلاله إلا إلي الناحية الأخري من البحر المتوسط، ومن الأطلسي، فهناك في شوارع مصر وقراها ما يستحق أن تتفحصه بدقة، لكي ينعكس بصدق في كتاباتك، بدلًا من أَلَّا تري عيناك غير ما تراه العيون المتربِّصة علي الجانب الآخر من التل. صدّقني أنا لا أستخدم إلا نظارة القراءة. ربما كانت عدساتها مستوردة من نفس الجهة، وتؤدي نفس الوظيفة. سأغيّر العدسات. ويقول الزعيم إنه ينصحك بأن تتمعّن في تاريخ والدك، فقد كان يعرفه جيدًا، سواء ككاتب مجتهد، أو كوطني مخلص، فربما إذا راجعت بضمير الابن البار تاريخه، أن تختار كلماتك ومواقفك، أن تمشي من خلفه. 'متهدّج الصوت': أبي.. يرحمه الله.. يرحمه الله. ويقول الزعيم إنه لا يمانع في أن تستحضره، ولكنه ينصحك أن تستحضره كما تقتضي الأمانة، حيث ينبغي أن يحضر، لا حيث تريد أن تفرض عليه حضورًا مزوِّرًا، وهو لا يمانع في أن تستنطقه، ولكن بما يريد أن يقوله حقًا، كما يقتضي الواجب، لا أن تضع في فمه كلمات ضالة بالخديعة والزيف. 'علا صوت رياض، واكتسبت نبراته خشونة واضحة': دعني أسألك.. هل قال المشير السيسي بالكلمات مرة واحدة أنه ناصري؟ لم يقل، ولكن الناس سمعوها قوية بالموقف الشجاع والفعل الجسور. إن الناس هم الذين استحضروا صور ناصر، ووضعوها إلي جوار صورته، إشارة منهم إلي ما أحسوه فيه، وإشارة أكثر وضوحًا إلي ما يريدونه منه، انحيازًا إلي قواعدهم الاجتماعية المُنتجة العريضة، وانحيازًا إلي استقلال إرادتهم وإرادة وطنهم. إن الناس هم الذين رأوا فيه حاجتهم وآمالهم وأحلامهم، وإذا كان ذلك هو حسّ الناس، فهو صادق، وإذا كان رأيهم فهو أمين، وإذا كان إيمانهم فهو صحيح. 'توقّف بُرهة ثم استطرد': هل من الوطنية – إذن - أن تعكس موقف الناس، فتضع ناصر في مواجهة السيسي؟ أليس ذلك تحايلًا لئيمًا فاسدًا؟! 'صَمَتَ'. ألا تشعر أنك أتيت أمرًا نكرًا؟! لم يكن قصدي. ألم يكن الأولي أن تستحضر ناصر في مواجهة بعض الذين يرتدون قميصه بالباطل، ويتحالفون مع خصومه وأعدائه، وهم أعداء مصر وخصومها؟! ألم يكن الأولي أن تستنطقه بما يرفضه ويغضبه من هؤلاء الذين يستخدمون اسمه ونضاله زورًا وبهتانًا، كما استخدم من سبقوهم الإسلام العظيم بالزور والبهتان أيضًا، لكي يتسلّقوا كالقِرَدة، أشجار الناس والسلطة؟ خطأ غير مقصود، فقد أردت أن أدافع عن ثورة 25 يناير. وهل الدفاع عن ثورة 25 يناير يقتضي تحقير ثورة 30 يونية، وشطبها من التاريخ، ألم ترفض وصفها بالثورة؟! أبدًا، أنا ضد الفاشية الدينية. 'بصوت أكثر حدّة': بل أنت أكثر الذين أعانوا هذه الفاشية الدينية علي الصعود إلي قمّة السلطة. ألم تضلّل الناس، وقلت لهم اعصروا الليمون وانتخبوا 'مرسي'؟ ألم تذهب إليه مؤيدًا ومباركًا ومعلنًا ثقتك في قيادته؟ ألم تقل إنه الممثل الحقيقي للثورة في مواجهة ممثل الفلول؟ ألم تقنع أناسًا آخرين ممن لم يرقهم ذلك بأن يضعوا في الصناديق أصواتًا باطلة، مدًعيًا أن ذلك من أفعال الثورة ومن متطلباتها؟!! داهمني الخوف من عودة النظام السابق. حتي إذا كان خوفًا، فقد أعنت نظامًا أكثر سوءًا وبطشًا وانغلاقًا وسقوطًا في حِجر قوي أجنبية تتربص بمصر. أنا كاتب، ولست خبيرًا استراتيجيًا. ليس هذا بعذر، وأسباب ذلك واضحة، فإذا كانت رؤيتك مشوّشة وعاجزة، فلماذا تدّعي بأن ما تراه هو الصواب، ثم تنقله للناس علي أنه الحِكمة الصائبة والحقيقة المطلقة؟ ثم إنك علي هذا النحو وبهذا العُذر لست بكاتب.. انظر ماذا فعل كُتّاب مصر الحقيقيون، وكيف نفذوا برؤاهم وراء سُحُب الزمن الداكنة، وكثبان الوقت، 'توفيق الحكيم' مثلًا رأي وراء جدران النظام الملكي الآسن، الذي كان يبدو سرمديًا، شمس ثورة يوليو، بل رأي المخلّص بشخصه، 'يوسف إدريس' رأي الثورة المضادة قبل أن تكون نطفة في رحم الغيب. 'نجيب محفوظ' رأي سقوط الطبقة المتوسطة فوق سلالم المجتمع، قبل أن تمتد معاول الانفتاح إلي السلالم وتهدمها. 'صَمَتَ': قل لي بربك، ماذا رأيت أنت؟! رأيت جيش مصر العظيم عسكرًا، ورأيت دوره في الدفاع عن هوية مصر ديكتاتورية عسكرية، ورأيت الإخوان بديلًا وطنيًا صالحًا، ورأيت 'مرسي' ثوريًا مُنقذًا. هؤلاء الكُتّاب الوطنيون العِظام وغيرهم، نفذوا بأرواحهم إلي المستقبل، ورؤوه رؤي العين، رؤا ما يتخلّق وراء أبواب السنين والأحقاب، وكانوا صادقين في رؤاهم، لكن أحدًا منهم لم يصف نفسه، أو يدعوا الآخرين إلي وصفه ب'الكاتب العالمي'. ولذلك في حالتك لست أعرف ما هو وجه اشتقاق كلمة 'العالمي'، هل هو من العالَم أو من العِلم أو من 'العوالم'؟! 'توقّف بُرهة كأنه يستعيد شيئًا من الذاكرة': بالمناسبة أريد أن أُذكّرك ببيتين من شعر العامية المصرية، في قصيدة قديمة للأبنودي، يقولان بالنص: أدْ ما تبقي حقيرْ يحتفل العالم بيكْ، يديكْ، شهادات تقديرْ.. أليس هذا واقعًا بالفعل، ألم تلاحظ أنت أن مواقفك في كل مرحلة، ومحطة، متطابقة مع مواقف الغرب؟ وأنك لا تدافع إلا عن أدواتهم المصنوعة، وسكاكينهم المسنونة، وصبيتهم المموّلين؟! كان قصدي في كل مرّة أن أدافع عن الديمقراطية. ديمقراطية قتل الجنود والضباط؟ ديمقراطية الألغام والرصاص وكمائن الموت، وحرق المتاحف والكنائس والبيوت؟ ألا تري أن بِركة الدم الشهيد في مصر تتّسع كل يوم، بينما تجلس قُرب حافتها، وتُدير ظهرك لها، وكأنك لا تشم روائح الدم الذكي، ولا تري قوافل الشهداء تتري، وهي تعبر كالرصاص في قلوب المصريين؟ أنت لم تكتب حرفًا ضد القتلة المأجورين، ولم تكتب كلمة دفاعًا عن الذين يصنعون من صدورهم متاريسًا لحماية جسد الوطن، بينما تحوّلت صدورهم عند بنادق الإرهاب إلي لوحات للتنشين. ربما انشغلت بالدفاع عن شباب الثورة. ألا تري أن تعبير شباب الثورة واسع ومضلّل؟! لقد قلت علي لسان الزعيم إن شباب الثورة يتم التنكيل بهم، والزجّ بهم في السجون؟ فهل تنفيذ أحكام القضاء بحق أشخاص عددهم أقل من أصابع اليد الواحدة، هو تنكيل بشباب الثورة، وزجّ بهم في السجون؟ ثم أليس مدهشًا ومستفزًا أنك لا تري من أعمال الداخلية إلا ما أطلقت عليه 'بطشًا'، بينما لا تري دمها، ضباطًا وجنودًا، مسفوحًا علي قوارع الطرق؟! أليس معني ذلك أنك تريد أن يمارس الإرهاب ألعابه الدنيئة في ملعب حرّ ومفتوح؟! 'بصوت حازم': هل أنت مع الإرهاب؟ لا، أنا مع الديمقراطية. لا جدوي، فقد عدت كالعادة إلي المراوغة، واللف والدوران، كنا نخشي أن تكون حالة ميئوس منها، ولكن الضمير الحيّ لعبد الناصر، والضمائر الحيّة لكافة الشهداء، رأت بفرط كرمها أن تمنحك فرصة أخيرة، وأن تضع الحقيقة أمامك إذا كانت غائبة عنك. 'أصبح صوت رياض أكثر حسمًا، وأقل حدّة': أريد أن أقول لك من جانبي إنك لا تري غير نفسك، قُم 'بنبرة آمرة' واصعد إلي السرير، وأغلق عينيك وواصل النُعاس. صعد 'الأسواني' إلي السرير، وأغلق عينيه، مرّت دقائق، حين عاود فتحهما مجددًا، تفرَّس مرتعشًا في أنحاء الغرفة، لكنه وجد الباب مغلقًا، والشبابيك موصدة، والستائر في مكانها، والسكون والظلام طبقات فوق بعضها. وبينما كان يقلّب وجهه، اشتم في فضاء الغرفة رائحة غريبة لم يتعرّف عليها من قبل، كانت أقرب إلي رائحة زهور تحترق. الأمن القومي هو الحل' Email: [email protected] Site: ahmedezzeldin.com