ان الناس لهم شهوات ورغبات، تتنوع رغباتهم وشهواتهم بين حسية واخري معنوية، وهم في الجنة غارقون في هذا النعيم، يتقلبون فيه بين فواكه كثيرة دانية لمقتطيفها وآكيليها، وبين خمر فيه نشوة للعقل وفيها أيضاً لذة للشاربين، وبين عسل ولبن، ومظاهر خلابة من جنتان مدهمتان من اخضرار أوراق الاشجار فيها اخضراراً يقارب السواد، وانهار شطآنها الذهب وقصور من ذهب واشجار سامقة بديعة الجمال والروعة تنعم العين بالنظر اليها، كل هذا الجمال يعيش فيه اهل هذه الجنة، الا ان رجلا اراد نعيما اخر، تري ما هو هذا النعيم الذي فات اهل الجنة وافتقده هذا الرجل؟ وهل في مثل هذا النعيم يحتاج انسان الي شيء آخر؟ فما هو هذا الشيء؟ ان هذا الرجل يريد شيئاً غريبا يريد ان يزرع في الجنة!، يريد ان يكون فلاحاً حتي في الجنة، يلقي البذور ويتولاها بالرعاية، ويتناوب سقياها، حتي تنمو وتزدهر امامه، فهذا يمثل له نعيما، يلبي رغبته وكامن شهوته، انه شي عجيب، عجيب حقاً ان تتمكن مهنة من انسان الي هذا الحد فتختلط بدمه ولحمه وتتحول من مهنة الي شهوة ورغبة عارمة! عندما سمعت هذا الحديث جاء في خاطري ان هذا الرجل لابد ان يكون مصرياً، من فلاحي مصر، ذلك لان الفلاحة في الدنيا كلها مهنة الا في مصر، فانها في مصر هوية لاهلها، فليست الفلاحة عندنا عملا يخضع لمقاييس التجارة من ربح او خسارةوانما هي هوية تلتصق في مصر بأصحابها فيحيون بها، فالفلاح في مصر لا يعمل في الفلاحة بمنطق الربح والخسارة، بل الفلاحة حياته، تجده يمتلك بقرة وناقة وحماراً يركب هذه ويحمل عليها ماخف من احمال، وياخذ من هذه اللبن فيشرب ويشتق منه الجبن والزبد الذي يكفيه، ويحمل علي ناقته ما يثقل علي الحمار حمله، لا يريد ان يثتكثر من البقر لتكون له مزرعة منها، ولا يريد ان يثكثر من الابل لتكون له مزرعة منها، بل يكتفي من كل هذا بما يحيه فلاحاً. يعيش الفلاح هكذا بين بقرته وحماره يحمل فأسه ويقضي يومه في غيطه بين تربتها السمراء التي يكسوها نباتها الاخضر، ينمو هذا النبات امام عينيه فينمو الخير في قلبه، تأكل منه العاصفير، وتجتمع عليها الطيور في دعوة عامة الي مأدبة مفتوحة، هكذا يعيش الفلاح في منظومة من الخير، يحيا بها ويحيا لها. في منزل الفلاح في مصر حجرة لحيواناته كما ان لابنائه حجرة، تعيش الحيوانات مع اسرته كأنها احد أفراد عائلته، وفي منزله تحيا زوجته بين طيورها وفرنها بين قربتها تخض فيها اللبن وبين رحرحتها ترحرح بها عجينها وتقذف به في الفرن ليكون خبزا شهياً، ومُنخلها بضم الميم تنخل به الدقيق فتفصل به الدقيق عن الرَدة بفتح الراء، وزيرها للمش وآخر للماء، وزلعة بكسر الزاي وهي ما تسمي بالبلاص وهي لحفظ الجبن أو العسل وفي بيتها مشنة بكسر الميم تحمل فيها خبزها وثبتاً وغلقاً من خوص النخيل وحبالا من ليف النخل ومن ليف النخل ايضا مكنسة تسميها مقشة، ومن فرو خرافها تصنع سجادة من اروع ما يكون، هكذا يعيش الفلاح في مصر في ملحمة من الطبيعة لا تجد لها مثيلا.