تعمل مراكز الدراسات الاستراتيجية والسياسية وكليات الحروب والقيادات العسكرية في الولاياتالمتحدة والدول الكبري وبعض الدول القوية الطامحة إلي التوسع الإقليمي باتجاه الوصول إلي الجيل الرابع من الحروب العالمية الذي يشكل قفزة كبيرة في عالم الصراع والتنافس وفي عالم السيطرة والتأثير الجديد في مختلف الساحات والقارات وذلك من خلال السعي نحو تطوير سياستها ووسائلها وأدواتها للتدخل في شؤون الدول المختلفة. ويعتمد الجيل الجديد من الحروب المستحدثة بداية علي تقرير معني الحرب، فالحرب كما هو معروف وفي نهاية المطاف، هي 'إرغام العدو علي تنفيذ إرادتك' وبكلمة مختصرة الحرب تعني الإكراه، والإكراه يقوم علي مصادرة إرادة الخصم بغض النظر عن الوسائل والأساليب والأدوات المستخدمة في الوصول إلي هذه النتيجة، ولذلك يمكن الوصول إليها دون حاجة إلي استخدام جيوش وأسلحة وقوات كبيرة، بمعني أنه يمكن الوصول إليها بطرق غير دموية ودون اللجوء إلي استخدام النيران والسلاح. وفي هذا السياق تحدث ''ماكس مانوارينج'' الأستاذ بمعهد الدراسات الاستراتيجية التابع لكلية الحرب بالجيش الأميركي في ندوة عقدت بمعهد دراسات الأمن القومي الإسرائيلي أغسطس الماضي قال فيها: إن الهدف من هذه الحرب لا يكون تحطيم مؤسسة عسكرية أو القضاء علي قدرة أمة، وإنما الهدف هو الإنهاك والتآكل ببطء ولكن بثبات يؤدي إلي إرغام العدو علي تنفيذ إرادتك. ولا يأتي هذا الإرغام إلا من خلال إرباك الدولة وزعزعة الاستقرار عبر أشخاص يفترض انتماؤهم وولاؤهم للدولة.. وينهي ماكس محاضرته بقوله ''وإذا فعلت هذا بطريقة جيدة ولمدة كافية وببطء مدروس، فسيستيقظ عدوك ميتا''. وقد يسأل سائل، ما السلاح الرئيسي في هذا الجيل من الحروب؟ السلاح الرئيسي فيها، هو القدرات العقلية، والقدرات الذكية، وليس القدرات المادية والمتمثلة بالدبابات والطائرات والأسلحة الفتاكة، وهذا السلاح أقوي تأثيراً وأوسع مدي وأكثر فاعلية من بقية الأسلحة المتعارف عليها. أما الأسلوب المعتمد في هذا الجيل الجديد من الحروب أو المواجهات، فيقوم علي مبدأ خلق 'الدولة الفاشلة'، فهذا المصطلح يمثل كلمة السر الحقيقية في هذه الحرب، والطريق الأنجع والأسرع للوصول إلي الدولة الفاشلة، ولكن مع وجود خطة وبرامج لهذا الأمر تقوم علي التعريف الجديد لمعني السيادة. 'فالسيادة' هي قدرة الدولة علي التحكم الكامل والشامل بإقليمها، بمعني آخر، إذا تمت زعزعة استقرار الدولة عن طريق الانتقاص من سيادتها علي جزء من إقليمها، أو أراضيها، فهذه هي الخطوة الأولي نحو تحقيق الهدف، وهو إيجاد الدولة الفاشلة، حيث يمكن أن تكون هناك مجموعات خارجة عن سيطرة الدولة تحكم قبضتها علي مقاليد الأمور في بعض أجزائها وعلي بعض سكانها. إن زعزعة الاستقرار لدولة ما له عدة أشكال وأنواع، كما يمكن الوصول إليه بعدة طرق وأساليب تختلف عن بعضها البعض. فما أبرز هذه الأشكال والأساليب؟ 1 العمل علي أن تصبح الدولة دولة شعوبية، حيث يمكن استغلال الاختلافات الدينية والمذهبية، والاختلاف في العرق والأصول والمنابت، من أجل تقوية وإشعال فتيل وجذوة التعصب. 2 من خلال العمل علي تحويل مناطق وأراضي الدولة المعنية إلي مسرح للجريمة من قتل، وخطف واغتيال، وقنص تقوم بها عصابات ومجموعات مسلحة ومتمردة 'تماماً كما يجري في سورية منذ ثلاث سنوات وحتي الآن'، الأمر الذي يخل بأمن المواطنين ومؤسسات الدولة علي اختلاف أنواعها، وينال من السلطة المركزية، وبالتالي فتح الطريق بسهولة أمام تحويل الدولة إلي دولة فاشلة. 3 يمكن استخدام بعض مواطني الدولة نفسها لتحقيق هذا الهدف، عبر تضليلهم وإغرائهم بالمال وتقديم السلاح لهم بعد تدريبهم عسكرياً وشحنهم بأفكار متطرفة وحاقدة، وهذا ما يغني عن الحاجة إلي تحريك قوات نظامية أو جيوش أو قطعات عسكرية من مكان إلي آخر كذلك يمكن أن يشترك في هذه الأعمال من المواطنين الرجال والنساء وحتي الأطفال. 4 يمكن استخدام ما يسمي 'الطابور الخامس' في هذا الإطار، هذا الطابور الذي يملك استعدادات للتعاون مع أي جهة ضد دولته مقابل مكاسب معينة يحصل عليها مالية أو غيرها. وهكذا عندما يتحقق مثل هذا الهدف المنشود، أي أن تصبح الدولة فاشلة، تكون في مثل هذه الحالة مهيأة للتدخل الخارجي بكل أشكاله ودرجاته، السياسية والاجتماعية والثقافية والعسكرية والأمنية المخابراتية، حتي يمكن أن تكون مهيأة لما هو أكثر، وذلك لأن الهدف الذي يرتكز علي شل إرادة الخصم وجعلها غير قادرة علي الاستقلال، وغير قادرة علي امتلاك القدرة اللازمة لاتخاذ القرار الوطني المستقل، يجعلها فريسة للتدخل والإملاء، وعرضة للارتهان للأجنبي أو بالأحري للآخر. إذاً، في مثل هذه الحالة التي يكون فيها المجتمع في أية دولة منقسماً علي نفسه طائفياً أو عرقياً ومذهبياً ودينياً، وتسوده الخصومات السياسية والاختلافات المتعددة الأوجه يكون الوصول إلي الدولة الفاشلة أسهل بكثير، ويقود بالتالي إلي إسقاط هذه الدولة بشكل نهائي. والشيء اللافت للنظر، هو أن خلق مثل هذه الدولة الفاشلة، يوحي للآخرين بأن عوامل داخلية ذاتية في الدولة نفسها، أدت إلي مثل هذا الفشل، بمعني أنه يبعد التهمة عن الدول الخارجية التي كانت بالأساس هي السبب في خلق هذه الدولة الفاشلة أو تلك، ولكن بأساليب ناعمة كما أشرنا، وبالاعتماد علي القدرات العقلية والذكية التي يعتبر تأثيرها أشد وأكثر فاعلية من تأثير الأسلحة المعروفة من دبابات وطائرات وأسلحة فتاكة وغيرها. وقد لجأت الولاياتالمتحدة الأميركية ودول غربية أوروبية حليفة لها إلي استخدام هذا الجيل الجديد من الحروب العالمية في أكثر من قارة ومنطقة في العالم، في آسيا وأفريقيا وأميركا اللاتينية ونجحت مع كل أسف في ذلك، أي في تقويض دول برمتها وإزالتها عن الخارطة. اِنّ هذا التشخيص الذي استخلصه الخبير في علم الحروب الجديدة البروفيسور ''مان جيلنجنسورت'' من تجارب عملية، يضعنا مباشرة أمام ما يحدث في سورية منذ ثلاث سنوات، وما يحدث في سيناء بمصر وغيرها من الدول العربية، فكل هذه المواصفات التي ذكرها المؤلف أو الخبير في علم الحروب الجديدة، تنطبق علي سلوك المجموعات الإرهابية المسلحة. فتنظيم القاعدة الإرهابي الذي فرّخ للمنطقة العربية داعش والنصرة.. والذي نواجهه حالياً، قد وجد ضالته حالياً بسيف الديمقراطية الغربية ليقطع به الرؤوس، وينفذ خطط ''بيوت الحريات الأميركية''، بأدوات محلية الصنع، مدفوعاً بعشرات المغريات والمسميّات والوعود المستترة والظاهرة، المباشرة وغير المباشرة علي أرضية التكفير الديني الذي وجد نافذته المشرعة ضمن آليات التنفيذ التي تصبّ في مصلحة الاستراتيجيا العليا لأمن ويهودية ''إسرائيل''، وهو الأمر نفسه الذي أكدته ''إسرائيل'' مراراً علي لسان مسؤوليها.. فهؤلاء الإرهابيون المرتزقة، لا يوجهون سلاحهم ضد أعداء، بل ضد جيش الدولة، وضد السكان المدنيين، ويكون هدفهم هز هيبة الدولة، وهؤلاء يعتمدون في تمويل جرائمهم وأعمالهم القتالية العدوانية الطابع والأسلوب، علي النهب والسرقات، وخطف الرهائن لقبض الفدية والإتاوات، وعلي تهريب السلاح، والمخدرات وتهريب الوقود وغسل الأموال. فهذه المجموعات الإرهابية المسلحة التي اتسع نشاطها مؤخراً في عدة دول عربية، وبخاصة في سورية ومصر واليمن وليبيا وتونس، قد تداخل عملها ونشاطها مع عمل ونشاط منظمات الجريمة المنظمة وتجار المخدرات والسلاح، في إطار شبكة دولية تتجاوز الحدود، وقد تحولت بالفعل إلي أدوات في أيدي مخابرات دول أجنبية تحقق لها مصالحها في البلاد العربية، وبالتالي، فإن هذه المجموعات الإرهابية المسلحة التي تمول من الخارج ومن تجار السلاح والمخدرات، منخرطة فيما أصبح يعرف بالحروب الجديدة التي جئنا علي سماتها الرئيسية، وتنفذ عمليات إرهابية دموية تخدم في النهاية أجندة أميركية صهيونية وغربية مشبوهة. وهذه المجموعات تتكون بغالبيتها من ميليشيات مسلحة من بقايا تنظيم القاعدة، ومن المرتزقة أو من محترفي الحروب في أفغانستان والشيشان، ومن مجرمين محترفين أخرجوا من سجون قطر وتركيا وغيرها من الدول، وأرسلوا إلي سورية بعد العفو عنهم، مقابل هذا الشرط 'أي أن يذهبوا للقتال في سورية'، وأيضاً من تجار سلاح ومخدرات وأصحاب سوابق مصنفين ضمن عصابات إجرام عالمية منظمة، هذا أولاً. أما ثانياً، فأعضاء هذه المجموعات يستهدفون الجيش العربي السوري، وقوي الأمن والشرطة، والسكان المدنيين عن طريق جرائم الاغتيال والقتل الهمجي، والهجوم علي معسكرات ومطارات وقطعات الجيش ومراكز الأمن والشرطة، إضافة لإعدام المدنيين 'علي الهوية' أحياناً، وإطلاق القذائف 'قذائف الهاون والقذائف الصاروخية' علي الأحياء الآمنة، أو علي المؤسسات الصحية والخدمية لتخريبها وتدميرها، إضافة إلي أعمال السلب والسرقات والاغتصاب، بحيث لا يتركون 'موبقة' إلا ويرتكبونها. وكل جهة، أو بالأحري عصابة، تعمل بشكل مستقل وكثيراً ما تحصل نزاعات مسلحة واشتباكات دموية بين هذه المجموعات بسبب الاختلاف علي تقاسم السرقات والغنائم، يذهب ضحيتها العشرات أو المئات منهم، كذلك تنطبق هذه المواصفات علي ما يجري في سيناء وبخاصة بعد إزاحة جماعة 'الإخوان المسلمين' عن السلطة في مصر، بسبب احتكارهم لها وإقصائهم للآخرين وفشلهم في إدارة شؤون البلاد، وخططهم لأسلمة مصر بكاملها، بغضّ النظر عن التنوّع الموجود فيها. فالأعمال والجرائم التي تمارسها المجموعات الإرهابية المسلحة في سورية، تمارس وترتكب في مصر في سيناء وفي أنحاء مصر كلها تقريباً، فقد امتدت الأيادي الآثمة للمرتزقة ولعناصر 'الإخوان المسلمين' إلي الجيش المصري، وإلي القوي الأمنية المصرية، اغتيالاً وقتلاً وتخريباً للمنشآت، وكل ذلك بتمويلٍ قطري وخارجي ومن خلال تهريب السلاح والمخدرات وأعمال النهب والسرقة، بالتنسيق مع مخابراتٍ أجنبيةٍ وإقليمية تركية وقطرية. أما التمويل، فهو من جهات خارجية معروفة 'قطر وتركيا.. ' إلي جانب أعمال سرقة حقول النفط وصوامع القمح، ومؤسسات الدولة والمخدرات، وغسل الأموال، ثم إنهم يعملون بطريقة غير مركزية، فلا قيادة لهم مركزية يلتزمون بأوامرها، ولا سيطرة لأحد عليهم. وما من شك أن المخابرات الأجنبية الإقليمية والدولية استطاعت اختراق هذه المنظمات الإرهابية والمجموعات المسلحة، وتعاونت معها في مجالات تجارة المخدرات والسلاح والسرقات. وعلي سبيل المثال، نشرت صحيفة ''بلتيمورصن'' الأميركية، أن المخابرات المركزية ضاعفت نشاطها في الخارج لتجنيد جواسيس، وأن الكونغرس نفسه، قد ضغط من أجل اختراق المنظمات الإرهابية، وبخاصة في الشرق الأوسط بهدف السيطرة عليها وتسخيرها لخدمة المصالح والمخططات الأميركية الرامية إلي الهيمنة علي دول المنطقة، والاستمرار في نهب ثرواتها، وحماية أمن إسرائيل. كذلك تمكَّن الموساد الإسرائيلي من اختراق المجموعات الإرهابية التي تعمل علي الساحة العربية، بعد أن كان قد ساهم في تشكيلها وإيجادها علي أرض الواقع، وعلي سبيل المثال، أكد أكثر من مصدر في الموساد الإسرائيلي أن اختراق تنظيم القاعدة ظلَّ علي قمة أولويات الموساد طوال فترة التسعينيات، والآن، يتعاون الموساد مع المجموعات المسلحة الإرهابية التي تقاتل في سورية، ويقدم لها الدعم عسكرياً ولوجستياً وأمنياً وإعلامياً، إضافة إلي معالجة جرحي هذه المجموعات في المشافي الإسرائيلية علناً. واليوم يؤكد الباحثون في العلاقات الدولية أن الحرب بمفهومها التقليدي في طريقها إلي الزوال بسبب التنمية الاقتصادية، ونشاط مؤسسات المجتمع الدولي، والاعتمادية المتبادلة، وقوة دور الجماعات المناهضة للحرب في العالم، ولاسيما بعدما أثبتت الأحداث الراهنة في المنطقة أفغانستان، العراق، ليبيا سورية.. انخفاض المنفعة أو المصلحة المتوقعة أطلسياً من الحرب، لذلك كانت سورية بنظر أعدائها التقليديين تستحق حرباً حديثة من نوع جديد، وهذا ما حصل. هذه الحرب الجديدة هي التي كشفت أبعادها وعرّابينها وأدواتها، وفضحت أكذوبة ''الربيع'' الذي أنتج تحولات أدت إلي انفصام في الشخصية وفي الانتماء الوطني والعروبي والإسلامي.. وقام خلالها التطرف الديني بتفجير المجتمع العربي من الداخل، تحوّلات يرعاها الأمريكي الذي سيخذل عملاءه، ذلك أن أي وعد أمريكي هو مجرد وهم. وتلك حقيقة يعرفها الشعب الأمريكي وغيره، فعلي سبيل المثال والتأكيد أجرت مجلة TIME الأمريكية استطلاعاً للرأي عام 2003 حول البلد الذي يشكل أكبر تهديد للسلام العالمي، وعلي الرغم من الضخ الإعلامي والسياسي، كانت النتائج: كوريا الشمالية 6.7 في المائة العراق 6.3 في المائة، بينما الولاياتالمتحدة 86.9 في المائة. فإدارات الولاياتالمتحدة وأجهزتها لا تحسب ما تقوم وتتصرف به في منطقتنا تناقضاً أو ازدواج معايير، بل تراه استمراراً لجهودها وضغوطها وخططها في الهيمنة وفرض سياساتها في كل الحالات والطرق والأشكال. فلا يهمها من يقدم لها الخدمات التي تطلبها بقدر ما تريده منه وتسعي إليه. ولهذا تتحالف اليوم مع ''أعدائها'' بالأمس وترسم خارطة لكل منهم وتعمل علي ما يستجد علي الأرض من جديد قد يخرج من لوائحها ورهاناتها. وما تعيشه بعض الدول التي عانت من احتلالها اليوم خير دليل علي تخبط سياساتها وتلاحق هزائمها. حيث إرادات الشعوب أقوي منها ومن كل ما بنته وخططت له بنفسها أو بأدواتها. فالاستراتيجية الأميركية المخصصة لهذا العقد الثاني قي الألفية الثالثة هي استهلاك جيوش الدول المتحالفة مع واشنطن وإعادة تنظيمها بعد تقسيم الدول المجاورة لإسرائيل إلي دويلات صغيرة بعد تفتيت جيوشها المركزية. وهذا ما جعل مصر وسورية والعراق تدرك أهمية دور الجيش في حماية سيادة واستقلال أراضيها وعدم السماح لأي قوة بالتدخل في شؤونه في هذه الظروف التي تسود فيها الفوضي الخطيرة مما يسمي بالربيع العربي.