كيف يمكن أن نفهم ونفسر ما يجرى فى مصرنا المحروسة من أحداث ملتبسة وغير مفهومة، تثير فى أنفسنا كثيرا من العجب والسخرية والغضب؟ وهل من يحركون تلك الأحداث ويحرّضون عليها، هم سياسيون أصحاب مبدأ وقضية، حريصون على نهضة الوطن وتقدمه، أم متآمرون ضالعون فى مخطط خارجى لإضعاف الدولة بهدف إخضاعها؟ هناك شخصيات ارتبط طموحها وصعودها على مسرح السياسة العالمية بولائها للقوى الكبرى، هذا الولاء تربى ونما وترعرع فى محاضن أجنبية غير وطنية، حتى خالط بالدم واللحم والعظم، وتم اختباره من قبل فى العراق، فنجح صاحبه فى المهمة بامتياز. اليوم جاء هؤلاء، ليكملوا المهمة فى وطنهم وبين مواطنيهم.. مهمة تحقيق إستراتيجية المستعمر فى إخضاع الوطن؛ من أجل التحكم والسيطرة، بوسائل أخرى غير الحرب العسكرية، التى أصبحت عالية التكلفة. تلك الوسائل -أيها السادة- هى (الجيل الرابع للحرب غير المتكافئة) كما يسمّيها "ماكْس مانْوارِنْج" -أستاذ بمعهد الدراسات الإستراتيجية فى كلية الحرب الأمريكية- حرب تمارس بأساليب أحدث، لإخضاع الشعوب والحكومات لإرادة المستعمر، من خلال ممارسات يقوم بها بعضٌ من مواطنى الدولة "لإفشالها" وبناء ما يعرف ب(الدولة الفاشلة)؛ أى الدولة الضعيفة المشتتة التى لا تستطيع أن تسيطر أو أن تدير أمورها، فيسهل إخضاعها والسيطرة عليها. الدكتور حسين حرارة -أحد المواطنين المصريين المهمومين بأمن مصر واستقرارها ومستقبلها- لخص محاضرة ألقاها "ماكْس مانْوارِنْج" أمام نخبة من القيادات العسكرية والمخابراتية الأمريكية، حدّد فيها ملامح إستراتيجية (الحرب غير المتكافئة) لإخضاع الدول المستهدفة، كان قد بدأها بطرح السؤال التالى: "ماذا تعنى الحرب؟.. الحرب معناها (الإكراه) أى إرغام العدو على الاستسلام لإرادتك.. كانت الفكرة القديمة أن تنشب الحرب بين دولتين أو تحالفين، يعنى بين جيوش؛ حيث يتجَلَّى فى ساحة المعركة؛ أعلام، وطيران، وزِى عسكرى، وعبور حدود دولة مستقلّة، والغرض هو الاستيلاء على قطعة من الأرض، أو على الدولة بأسرها". ويستدرك "ماكس" -الذى عمل فى المخابرات العسكرية وفى قيادة الجيش الأمريكى- قائلًا: "لكن مع التجربة، وخلال السنوات العشرين الماضية، بدأت هذه الفكرة تضْمَحِلّ، ويحل مكانها بالتدريج فكرة (الحرب غير المتكافئة) أو (الحرب الناعمة)". ثم يتابع: "ما زال الناس يتحدثون عن القوات النظامية التى تعْبُرُ الحدود، لقد فعلنا هذا فى أمريكا اللاتينية منذ 100 عام مضت، لكن منذ ذلك الحين ونحن منخرطون هناك فى نوع جديد من الحروب، فما الهدف منها؟". يجيب: "ليس تحطيمَ مؤسسةٍ عسكرية، أو القضاء على قدرةِ أمةٍ على مواجهةٍ عسكريةٍ خارج حدودها.. لا؛ الغرض هو: إنْهاكُ وقَضْمُ إرادة الدولة المسْتَهْدَفة -ببطء ولكن بثبات- وفى النهاية نتمكّن من امتلاك السيطرة عليها والتحكُّم فيها.. لا تنسَ أن الهدف الحقيقى هو إرغام العدوّ على تنفيذ إرادتك!". يُبَلْوِرُ "ماكْس مانْوارِنْج" الغاية النهائية للحرب فى هذه العبارة البسيطة الواضحة: "هدفنا هو التحكم والسيطرة، أو الوصول إلى نقطة إخضاع العدو لإرادتنا". ثم يكشف عن أهم سلاحين فى هذه الحرب وهما: قوة المال، والقدرات العقلية.. يقول ماكس: "ليست قوة النيران هى السلاح فى هذه الحرب، ولكن قدراتنا العقلية هى السلاح الرئيس، ثم تذكّروا: ما الذى أسقط جدار برلين؟ الدبابات، المدفعية، الطيران؟.. لا؛ المارْك الألمانى هو الذى أسقط الجدار، وهو الذى كسب الحرب". ويصل الرجل إلى نقطة بالغة الأهمية؛ حيث يبيّن للنخبة من مستمعيه أن "زعزعة الاستقرار بدلًا من سفك الدماء فى المعارك، أهون علينا وأقل تكلفة؛ لأن من ينفّذها لحسابنا هم (مواطنون من الدولة العدوّ)، فبزعزعة الاستقرار وانتشار الفوضى، تضعف قدرة الدولة على التحكم فى الأوضاع، أو السيطرة الكاملة على بعض أجزاء من أراضيها، ومن ثم تصبح الدولة فاشلة". وينبِّه "ماكس" إلى نقطة مهمة فيقول: "نحن عادة لا نستخدم مصطلح (الدولة الفاشلة) أبدًا فى خطابنا، كنوع من الدبلوماسية الواجبة، حتى لا نُحرِج أحدًا من أعواننا الذين ينفِّذون خططنا". ولأن المنتج النهائى للحرب الناعمة هو دولة فاشلة.. يقول الرجل: "فى أمريكا الوسطى وفى أماكن أخرى من العالم يوجد دول بها أجزاء من أراضيها غير خاضعة لسلطة الدولة المركزية، فمن الذى يتحكم فيها إذن؟ إنها مجموعات من مُواطنى الدولة، معادون للدولةِ، مقاتلون شرسون وأشرار، ومع مرور الوقت، تكون قد خلَقْتَ دولةً فاشلة، تستطيع أن تتدخّل أنت وتتحكم فيها، بل يمكنك أن تذهب أبعد من هذا لتفعل بها ما تشاء". وضرب أمثلة بدولة "هاييتى" ودول أخرى، أصبحت دول جريمة، أو دول شعوبية، أو طائفية. وفى آخر محاضرته يؤكد "ماكْس مانْوارِنْج" على عبارتين بالغتى الأهمية ينبغى إضافتهما الآن إلى قاموسك اللغوىّ: (1) "الحرب هى إكراه العدو على تنفيذ إرادتك"، سواء بالقتل أو بالأساليب الناعمة. (2) "الدولة الفاشلة"، وهذه ليست حدثًا يقع مرة واحدة، وإنما هى عملية تتم فى خطوات، وتنفَّذُ ببطء وبهدوءٍ كافٍ، سيذهب الناس إلى النوم -حسب كلمات الزعيم الفنزويلى الراحل هوجو تشافيز- ثم إذا حان موعد اليقظة إذا هم موتى!. وفى النهاية يعيد الرجل التأكيد لآخر مرة، ويذكِّر الحاضرين بأن الوسيلة الأساسية والناجعة فى الحرب غير المتكافئة هى "استخدام مواطنى دوْلة العدوّ" أداةً فعّالةً وأكيدةً لهزيمته فى عقر داره؛ يقول: "إذا فعلت هذا بإتقان وأناةٍ ولمدة كافية فسيستيقظ عدوك ميِّتًا!". "هوجو تشافيز" رئيس فنزويلا كان أول من تنبّه -بعبقريته ومن تجربته الخاصة مع الولاياتالمتحدة- إلى خطورة الحرب غير المتكافئة، وقد تحدث سنة 2005م لضباط الأكاديمية العسكرية فى العاصمة الفنزويلية "كراكاس"، وطلب منهم أن يتعلموا مواجهة هذا النوع الجديد من الحروب، وأن يطوّروا عقيدةَ قتال للتعامل معها. أقول: هذه هى الحرب التى تدور رحاها الآن بشراسةٍ بالغةٍ، وإصرارٍ مستميتٍ فى قلب مصر؛ لقد جرَّب الأمريكيون والصهاينة محاولةً لتدمير سيطرة مصر الهشّة على سيناء، لكنها كانت محاولة غير ناضجة، أفسدتها يقظة القيادة السياسية والقوات المسلحة، وهذا لا ينفى أن إعادة المحاولة فى سيناء، أو فى أى بقعة أخرى من أرض مصر -كبورسعيد مثلا- مسألة واردة. لا بد هنا من التطرّق إلى الشبكة العنكبوتية التى تضمّ الأطراف المنفّذة لمؤامرة إفشال الدولة فى مصر، وربطها بمراكز التخطيط والتمويل والتوجيه داخل مصر وخارجها: أما خارج مصر فهناك عدة مراكز متآزرة هى أمريكا وإسرائيل وبعض الدول الخليجية التى تعيش فى كنف الحماية الأمريكية. وفى داخل مصر هناك جهات تقوم بالتمويل تضم رجال مال وأعمال، ومُلاك فضائيات خاصة، من مخلفات عهد مبارك يعرفهم القاصى والدانى.. هذه الشبكة المعقّدة لا بد لها من منسّق عالى الخبرة، فى الربط بين مراكز التخطيط والتمويل، وبين المنفّذين، سواء كانوا أفرادًا أو مجموعات فى الأحزاب والإعلام، ومنظمات مجتمع مدنى. نستطيع أن نضع على رأس المنسّقين "آن باترسون" السفيرة الأمريكية الخبيرة فى القاهرة؛ فمن حديثها للكونجرس الأمريكى، سمعنا للمرة الأولى أن الولاياتالمتحدة أنفقت بمصر 40 مليون دولار فى أسابيع قليلة بعد قيام الثورة المصرية على بعض المجموعات والجمعيات، وذكرت مصادر أمريكية أخرى أن المبلغ الحقيقى يصل إلى 200 مليون دولار. خبرتها "باترسون" السابقة، ومهاراتها تؤهّلها بجدارة لمهمة إدارة العملية فى مصر؛ فمن أبرز خبراتها فى "الحرب الناعمة" لإفشال الدولة: ست سنوات قضتها فى أمريكا اللاتينية بين كولومبيا والْسلفادور، وثلاث سنوات فى باكستان تزعزع فيها الاستقرار والأمن إلى أبعد مدى، تمّ فيها اغتيال بى نظير بوتو، وعمليات اغتيال أخرى، وشهدت تورّط الجيش الباكستانى فى حرب أهلية مع طالبان باكستان، ومع القبائل على الحدود الأفغانية. سِجِلُّ "باترسون" فى وثائق "ويكيليكس" حافل بالإنجازات من هذا القبيل، وتعتبر ثانى أقوى شخصية فى الخارجية الأمريكية، لذلك اختارها الرئيس الأمريكى "باراك أوباما" لمهمة شديدة التعقيد بالغة الأهمية فى مصر. ولا بد أن يثير انتباه الغافلين، أنه فى مستهل عملها بعد الثورة شهدت مصر نشاطًا قويًّا واسعًا للجمعيات الأمريكية غير الشرعية، وكشفت التحقيقات مع المتهمين الذين قُدِّموا إلى المحاكمة فى القضية المشهورة باسْم "قضية التمويل الأجنبى" أن ثمةَ خرائط لتقسيم مصر إلى دويلات، كانت فى حوزتهم، ولكن التدخل الأمريكى السريع، أجهض القضية وأُغلقت صفحتها إلى الأبد؟!. كذلك لاحظنا مع الأزمات الأخيرة حدّةً غير معهودة، صاحبها اعتصامات واضطرابات متلاحقة، افتعلتها قوى تسمى نفسها المعارضة -متآزرة علنًا ربما للمرة الأولى- مع فلول النظام الساقط، الذين جاءوا معهم بعناصر شرسة من البلطجية المسلحين، وترتب على ذلك سقوط قتلى، ومحاولات اقتحام للقصر الجمهورى، وحرق لمقرات أحزاب وجماعات، وفى أثناء ذلك كله كانت السفيرة الأمريكية فى نشاط متواصل ولقاءات مع قيادات تلك المعارضة، التى اتهمتها السفيرة بعدم قدرتها على الحشد، كما اعترف بذلك الناشط والباحث القبطى عماد جاد الذى حضر لقاء السفيرة، كما صاحبت تلك الأحداث تصريحات نارية من المتهم الهارب أحمد شفيق وزمرته على فضائيات خليجية تدور فى فلك المخابرات الصهيوأمريكية، وسمعنا عن استنجاد قيادات تلك المعارضة بالقوى الأجنبية. كان سيناريو اقتحام قصر الاتحادية، هو صورة طبق الأصل من سيناريوهات جرت فى بعض دول أمريكا اللاتينية للتخلص من رؤساء دول منتخبين، يرفضون الانصياع للسيطرة الأمريكية، تم التخلص منهم بحشد مظاهرات كبيرة عبارة عن شغب، ثم اقتحام لانتزاع رأس الدولة من السلطة بالقوة، وكان "هوجو تشافيز" هو الوحيد الذى نجا من السيناريو الأمريكانى، كما نجا منه الدكتور محمد مرسى -رئيس الجمهورية- بعناية إلهية. ليس هذا إلا فصلا واحدا من فصول "الحرب غير المتكافئة" التى تدور رحاها على أرض مصر، بتخطيط أمريكى وتمويل متعدّد المصادر، تنفِّذه أيدٍ مصرية، وتُؤَجج نيرانه حناجر وأقلام مصرية فى إعلامنا وصحافتنا، غايتها النهائية -أدركنا أو لم ندرك- هى إفشال السلطة الحاكمة وإسقاط الدولة وتفكيك مصر، ومن ثم إخضاعها مرة أخرى للإمبريالية الأمريكية الصهيونية!. فهل سيغمض المصريون أعينهم عن هذه الحرب الخفية التى تنفذها أيادٍ مصرية، ويذهبون إلى فراشهم يغُطّون فى نوم عميق، ليستيقظوا أمواتًا، أم سيكون لهم من اليقظة والانتباه مع هؤلاء شأنٌ آخر؟!.