كان ذلك في عام 2009، عندما أفاقت الأمة العربية، وأدركت الأهمية المركزية لقضية الثقافة، بوصفها الدرع الواقية للهوية العربية الإسلامية مما قد يحيق بها من دمار وأخطار تهدد كيانها بالمحو والذوبان والتبعية. حينها تداعت إلي عقد مؤتمر قمة عربي عن الثقافة العربية.. حاضرها ومستقبلها. جاءت فكرة المبادرة إلي عقد قمة للثقافة العربية من قِبل سمو الأمير خالد الفيصل، رئيس مؤسسة الفكر العربي، بالتنسيق مع اتحاد الكتاب العرب.. وتبني السيد عمرو موسي أمين عام الجامعة العربية آنذاك، المبادرة وشرع في التمهيد والإعداد والتحضير لهذه القمة العربية الثقافية بعقد اللقاء التحضيري الأول في بيروت في شهر يوليو من عام 2010. وقد كان مقررًا لانعقاد هذه القمة الثقافية عام 2011.. ولكن اندلاع ثورات ما اصطلح علي تسميته بالربيع العربي في كل من مصر وتونس وليبيا وغيرها من الدول وزلزلة عروشها وما تبع ذلك من أحداث جسام، حال دون انعقاد هذه القمة النوعية المرتقبة.. وإن كان الأمل مازال باقيًا حيًا في أن تعود الفكرة إلي حيز الوجود والتحقق من جديد، لأن الحاجة إليها أصبحت ماسة أكثر من أي وقت مضي!! ومعرض القاهرة الدولي للكتاب، الذي ننتظره بلهفة كل عام، يعد النواة الصلبة، والتجلي الأهمّ للوحدة الثقافية المنشودة بين شعوب الأمة العربية.. فلا نهوض حقيقيًا لبنية ثقافية وحضارية دون الارتكاز علي الكتاب.. ولا سبيل إلي تشكيل الوعي وتكوين العقل الناقد وصيانته من الزلل والانحراف والضلال إلا بالاعتماد علي الكتاب.. فمازال الكتاب هو الوسيط المعرفيّ الأساسيّ الذي لم تستطع أن تزحزحه عن عرشه بقية الوسائط الثقافية الأخري، التي أفرزتها المستحدثات التكنولوجية.. وفي الأخير سيظل الكتاب محتفظًا بهالته القدسية الأولي حين اختاره الله وعاءً حاملاً لكلماته التي تنير للبشرية طريقها.. وترسم لها سبل الهداية والتمكين في الأرض. وقد كان اختيار الدكتور طه حسين شخصية محورية لدورة معرض الكتاب هذا العام اختيارًا موفقًا حقًا، ليس لمجرد مرور أربعين عامًا علي رحيله عام 1973، في شهر أكتوبر من العام المنصرم وفقط، ولكن لأن الدكتور طه حسين سيظل أيقونة العلم والثقافة والتنوير، والإعلاء من شأن العقل، والانفتاح الواثق علي الثقافة الغربية، والتعاطي معها، والإفادة منها، دون أدني شعور بالضعة أو الدونية، كما فعلت هي عندما كانت غارقة في جهلها وخرافاتها فنهلت من الثقافة العربية المتقدمة آنذاك!! كان الدكتور طه حسين شديد الاهتمام.. دائم الانشغال بالتعليم، لوعيه الفائق بأن التعليم قاطرة التقدم والحضارة في أي مجتمع وفي أي أمة من الأمم، فصوره في عبارته الخالدة التي تجسد أهميته القصوي: 'التعليم كالماء والهواء'. كما كان مؤرقًا بالثقافة بوصفها الروح العميق لأي مجتمع إنساني حيّ نابض ينشد الحرية والتقدم، فوضع في هذا الصدد كتابه التأسيسيّ 'مستقبل الثقافة في مصر'. وهل كان من قبيل المصادفة أن يكون الاحتفاء بعميد الأدب العربي الدكتور طه حسين موافقًا للقضاء علي جماعة الإخوان الإرهابية، التي أزعجت العميد بحماقتها وجنونها حين أقدمت علي اغتيال الرئيس جمال عبد الناصر عام 1954، فألّف بالاشتراك مع مجموعة مؤلفين آخرين كتابًا أسموه 'هؤلاء هم الإخوان'.. وجاء إسهام العميد في ذلك الكتاب تحت عنوان 'فتنة' وصف فيه جماعة الإخوان وصفًا نافذا عابرًا للعقود، وكأنما كان ينظر بطرف الغيب لما سيئول إليها حالها الآن من عنف أحمق مجنون دون مبالاة بالعواقب الوخيمة علي أمن الوطن وسلامته.. كتب الدكتور طه حسين قائلاً: 'الراشدون من أبناء مصر يرقبون وطنهم معلقين بين الخوف والرجاء، والعالم الخارجي الحديث يرقب مصر من قرب، منه من يشجعها ويتمني لها النجاح، ومنه من يضيق بها ويتمني لها الإخفاق ويتربص بها الدوائر، ويبث في سبيلها المصاعب والعقبات. وفريق من أبنائها المحمّقين لا يحفلون بشيء من هذا كله ولا يرقبون في وطنهم ولا في أنفسهم ولا في أبنائهم وأحفادهم إلاًّ ولا ذمة، ولا يقدرون حقًا ولا واجبًا، ولا يرعون ما أمر الله أن يُرعي، ولا يصلون ما أمر الله أن يوصل، وإنما يركبون رءوسهم ويمضون علي وجوههم هائمين لا يعرفون ما يأتون وما يدعون، ولا يفكرون فيما يقدمون عليه من الأمر ولا فيما قد يورّطون فيه وطنهم من الأهوال الجسام'. إن الثقافة هي طوق النجاة العاصم الآن وغدًا ودائمًا في مواجهة ما يحدق بالأوطان من الأخطار.. وفي مقدمة هذه الأخطار تيارات الإسلام السياسي ضيقة الأفق.. جامدة التفكير.. أحادية النظرة التي تغرق المجتمع في بحر من العنف والإرهاب المقدس باسم الدين.. وفي سبيل الإله.. ودين الله من كل ذلك لو يعلمون بريء كل البراءة.. ولكنها الشهوة العارمة المدمرة في الوصول إلي السلطة التي إذا ما اقترنت بالجهل والتعصب والجمود والانغلاق، أصبحت كالسيل الأعمي الذي يكتسح في طريقه كل شيء.. فالثقافة الثقافة قبل أن يدرككم الغرق!!