منذ عقودٍ مضت، قدَّم الكاتب/ خالد محمد خالد- روشتة علاج لجماعة الإخوان المسلمين، بعد الانهيار الحاد الذي صَدَّع بنيانها في الخمسينيات والستينيات من القرن الماضي، دعاهم فيها إلي نبذ العنف، والتخلِّي عن النظام الخاص، وإشاعة الجو الديمقراطي بين شباب الجماعة وشيوخها، والتفرُّغ للدعوة.. فماذا كان موقف الجماعة منه؟ وما هو الثمن الذي دفعته؟! الحذر من البنا وجماعته! يقول في كتابه 'قصتي مع الحياة': 'هل كان الإخوان المسلمون يريدون حُكماً تطاوَل استبطاؤه؟! سؤال لابد من وقفةٍ معه حين نصحبكم من يوم بدأوا، إلي يوم عرَّضوا أنفسهم للمِحَن الجِسام. كان إعجابي بالأستاذ حسن البنا يتنامي دوماً، فكل ما فيه يدعو للإعجاب به، والمودة له: علمه، وخُلقه، وسمته، وزهده، وتواضعه، وتبتُّله، وجهاده، ومُثابرته، وسِحر حديثه! ولكن مع هذا الإعجاب المتنامي به، كان ينتابني الحَذَر، أكان حذراً منه؟ أم حذراً عليه؟! لم أكن يومها أدري، كل ما كنتُ أجده، شعورٌ غامضٌ بالحذر.. ولعل هذا الشعور هو الذي حدَّد علاقتي بالإخوان، كمجرد زائرٍ للدار، ومُستمِعٍ للأستاذ، من دون أن أرتبط بعضويةٍ، أو أي التزام'! إنَّ كل ذَكاءٍ للزعامة وليقظتها، وشُمولها كان للأستاذ البنَّا منه أوفي نصيبٍ، ولقد كان في الصدارة من الذين يألفون، ويُؤلفون، وكانت شمائله تفتح له القلوب الغُلْف، والآذان الصُّم.. فما الذي حمل رجلاً، هذه صفاته، وهذه نجاحاته، علي أن يُنشئ، أو يوافق علي إنشاء جهاز النظام الخاص، بكل احتمالاته الماثلة، ومخاطره المُقبلة؟! هذا هو اللغز الكبير في مسيرة الإخوان! يوم فاصل للإخوان! إنَّ يوم 4 فبراير سنة 1942م، يوم فاصل وزاخر في تاريخ الإخوان المسلمين! لكن قبل ذلك، ومع بدء عام 1940م أخذت دعوة الإخوان يعلو أُوارها، ويتعاظم انتشارها، وراح الإنجليز يحسبون لها ألف حسابٍ، إذْ كانت الحرب العالمية الثانية تجتاحهم اجتياحاً رهيباً، لذلك طالبوا الملك فاروق بأن يعهد للنحاس باشا بتأليف حكومة جديدة، بوصفه زعيم الأغلبية بين الشعب.. وكان لابد من إجراء الانتخابات البرلمانية. وهنا بدا لحسن البنا أن يُرشِّح نفسه عن دائرة الإسماعيلية، وفَرِحَ الإخوان بهذا الترشيح. ولم يكن هناك ما يُعادِل فَرَح الإخوان في مصر كلها، سوي حزنهم حين فاجأهم المرشد البنا بالانسحاب من الترشيح! فما الذي حدث بين الترشيح والانسحاب؟ لقد طلب النحاس باشا مقابلة البنا في مكتبه، وأخبره أن الإنجليز طلبوا منه منعه من دخول البرلمان. 'وسأله النحاس: هل أنتَ داعية دينٍ، أم رجل سياسة؟ إذا كنتَ تريد الإسلام حقاً، فإني سأمنحك فرصة العمر، واعداً إياك بأن تبذل الحكومة كل ما تستطيع في سبيل مُعاونتك، وتهيئة فرص الدعوة، والانتشار للإخوان! وهكذا، قرَّر البنا الانسحاب من الترشيح. وقد وفَّي النحاس بوعده، وتوقَّف النشاط السياسي للأحزاب جميعها، وخلا الجو تماماً من حزب مصر الفتاة-منافس الإخوان- وتُرِكت الساحة للإخوان يملأونها هتافاً وحركةً ونشاطاً! فنمتْ الجماعة نمواً كبيراً، بكل أقسامها المُختصة بالعُمّال والطُّلاَّب والشباب، وكان أسرعها في النمو، وأكثرها نشاطاً، النظام الخاص، والذي مهما يَطُلْ الحديث في تبرير وجوده، والدفاع عنه، فقد كان تنظيماً سرياً، يُعِدُّ أفراده إعداداً مُسلَّحاً، ليومٍ يعلمه الذين يُعِدُّونه، ولأمرٍ يعرفونه، ولهدفٍ يُبصِرونه'! نُبوءة.. شيخ البنَّا! في أحد دروس الثلاثاء، التي كان يُلقيها البنا، حضر خالد محمد خالد، بصحبة الشيخ/ سيد سابق، وعلماء آخرين من الجمعية الشرعية، ومن الأزهر الشريف. وتحدَّث البنا عن شيخه الصوفي/ الحُصافي، فقال: إنه عندما صحَّ منهما العزم، هو والأستاذ/ أحمد السكري علي تكوين جماعة الإخوان، ذهبا إلي الشيخ الحصافي يستأذِنانه، ويسألانه النُّصحَ والدعاء، فأّذِن الشيخ لهما، وقال: 'سيجمع الله حولكما خَلقاً كثيراً، فاتقوا الله فيهم'! وبمجرد سماع خالد محمد خالد لنبوءة الشيخ الحصافي لتلميذه البنا، حتي سَرَح بفكره، وخياله البعيد، وقال في نفسه: 'إذا صحَّتْ نبوءة الشيخ، فإن الأستاذ البنا لن يصل إلي منتهي الطريق، التي رسمها لنفسه ولجماعته.. وهاهم هؤلاء الخَلق 'الإخوان' يتجمَّعون، وسوف يتجمَّعون أكثر وأكثر، فماذا بعد هذا؟! لابد السقوط والانهيار'! نُبُوءة الشيخ الغزالي! بعد يومَين التقي خالد محمد خالد بالشيخ/ محمد الغزالي، والشيخ/ زكريا الزوكة، وروي لهما ما حدث، فإذا بالشيخ الغزالي، يقول في أسيً واضحٍ: 'إنَّ هذا الإحساس يُلِمُّ بي كثيراً، وفي رأيي أن البنا زعيم تهيئة للناس، ولن يزيد'! ويقول الشيخ زكريا: وأنا أيضاً! ويُعَلِّق خالد محمد خالد، فيقول: 'وفعلاً، كشف المستقبل أن البنَّا زعيمٌ هيَّأ الأرضَ والمناخ والناس، ثم مضي إلي لقاء ربه محبوراً'! بعد ذلك، يطرح -الكاتب- عدة أسئلة، منها: هل كان الإخوان يريدون حُكماً تطاوَل استبطاؤه؟! ومِن أين أُتِيَ الإخوان؟ وما الذي أزَلَّ خُطاهم عن الطريق؟ وما الذي أطفأ النورَ، الذي كان يسعي بين أيديهم وبأيمانهم؟! يُجيب قائلاً: من مُعاصرتي للأحداث، أستطيع حصرَ عوامل التعرية، التي أصابت الجماعة، في اثنين، لا ثالثَ لهما، أولهما: التنظيم السري، بسوءاته، وحماقاته، وجرائمه! ثانيهما: غياب الإيمان بالديمقراطية واحترامها، وبث الولاء لها في ضمائر الإخوان، وفي فكر الجماعة، وسلوك القادة! البنا زعيم طائفة! ويستشهد خالد محمد خالد- علي كلامه السابق، بحديثٍ صحفي، قال فيه البنا لمجلة 'الاثنين' وقتها: 'إننا نؤمن بأن الغد سوف يختصنا بتبعاته'! لكنَّ الإيمانَ بأن الغد سيختص جماعةً دون غيرها بتبعاته، ومسئولياته، واحتياجاته، يتطلَّب إدراكاً ذكيَّاً، ومُخلصاً وسديداً لظروف الغد، من خلال اليوم، ولحتميّات المستقبل، من خلال الحاضر.. وأن يكون مَلِكاً 'أو رئيساً' للناس جميعاً، وليس مَلِكاً 'أو رئيساً' لحزبٍ، أو جماعةٍ، أو طائفةٍ، أو قائدٍ، أو زعيم! فهلْ كان خالد محمد خالد يتنبّأ بما ستُسفِر عنه الأيام بعد أكثر من نصف قرن، من وصول الإخوان المسلمين إلي مقاليد السلطة في مصر، وقيادتها بمنطق الجماعة والحزب، لا الدولة؟! وفعلاً، فلا الإخوان، ولا قياداتهم كانوا في مستوي تَبِعات الغد، بل، ولا في مستوي تبِعات اليوم! وهو ما أثبتته الأيام والحوادث، ودولاب العمل السياسي والاقتصادي الآن! فقد سيطر الخراب والدمار والمجاعات، علي طول مصر المحروسة وعرضها في عهدهم المشئوم! روشتة رفضها الإخوان! ويُحَمِّل خالد محمد خالد 'النظام الخاص' ما أصاب الجماعة من ارتياب الناس منهم، ومن القائمين عليها، فلقد كان باستطاعة الإخوان رفض النظام الخاص، وبث الولاء للديمقراطية، في نفوس الشباب، بنفس القدر الذي يُبَثُّ به الولاء للدين، فالديمقراطية السياسية والاجتماعية، هما سِياج الدين المنيع، وسياج الوطن أيضاً! فهل رأينا الرسول صلي الله عليه وسلم يُشَكِّل من صحابته تنظيماً سرياً ضد مُشركي مكة؟! كلا، لم يفعل! إذن، فالنظام الخاص هو المسئول عن كل ما أصاب الإخوان من بلاءٍ، من مخاطرَ وأهوال! وهكذا، سارت الجماعة بأطوارها المختلفة، علي سياسة العمل السري، والاغتيالات، والميليشيات، حتي وهي تُمارِس السياسة في العلن، منذ أيام البنا، وحتي اليوم! وهكذا قضي حسن البنا علي جماعته وطائفته منذ أول يومٍ أنشأ فيه تنظيمه الإرهابي!