حين وصلوا إلي سدة الحكم.. خايل أبصارهم سرابُ الخلود الخادع، حتي قال كبيرهم لجنراله: لقد أتينا لنحكم خمسمائة عام!! ولكن كان للقدر وللإرادة الشعبية قول آخر.. إذ سرعان ما تهاوت صروح الأوهام علي ثورة الثلاثين من يونية، التي اختلفت عن سابقتها.. '25 يناير' في أنها أفرزت زعامة شعبية.. التف حولها الجميع، واستدعت إلي الأذهان صورة الزعيم الخالد جمال عبد الناصر.. وأمجاد الستينيات.. لقد سقطت دولة الإخوان بعد عام من الخواء والإفلاس السياسي والفكري والأخلاقي.. وكان السقوط مدويا، لأن دعاتها تنكروا للقيم التي كانوا يدعون الناس إليها.. وجعلوا من الدين بكل حمولاته المقدسة حصان طروادة ليمرروا من خلاله طموحهم الجامح إلي السلطة، التي تعاملوا معها بمنطق الغنيمة.. لا المسئولية.. فأخلفوا الوعود.. وخيبوا الآمال.. بعد أن ألهبوا التوقعات، فأثاروا في النفوس السخط والاستفزاز والكراهية!! ولكن هل يعني سقوط دولة الإخوان في الحكم والسياسة، نهاية الفكرة والمشروع والتصورات؟ وهل يعني سقوط دولة الإخوان تفكك منظومة 'الإسلام السياسي' كسردية كبري.. ونسق من التصورات والأفكار؟ لا ينكر أحد أن جماعة الإخوان المسلمين، بوصفها كبري الحركات الإسلامية، ومنظومة الإسلام السياسي برمتها يعانيان مأزقا حادًا، بل إنه ليكاد يكون مأزقا وجوديا في اللحظة الراهنة.. ولكن حقائق التاريخ الحديث أثبتت -أيضًا- أن هذا التيار مهما تلقي من ضربات مادية وأمنية، فإنه سرعان ما يتفادي آثارها، ويمتص صدماتها، ويعود أكثر عنفا وإرهابا عن ذي قبل.. بل إنه ليوظف تلك الضربات كمادة دعائية لاستجلاب الأنصار والمتعاطفين، عبر الظهور بمظهر المظلومية التاريخية.. والاستشهادية الكربلائية!! ومن ثم فإن المواجهة الفكرية هي الاستراتيجية المثلي في التعامل مع منظومة الإسلام السياسي، بكل فواعله الرئيسيين: الإخوان المسلمين- السلفيين- الجماعة الإسلامية- تنظيم الجهاد- التكفير والهجرة- حركة حماس- الناجون من النار.. جنبا إلي جنب المواجهة الأمنية لعنفه وإرهابه.. لابد من الاشتباك مع خطاباته.. ونقد بناه وأنساقه الفكرية.. وخلخلة مسلماته ومطلقاته.. والحقيقة رائدنا من قبل ومن بعد.. ثمار مرة!! منذ الأيام الأولي تكشفت عورات الممارسة الإخوانية في الحكم والسياسية، وتجلت نزعتهم الافتراسية.. ونهمهم إلي السلطة والاستحواذ والهيمنة والإقصاء لكل من عداهم تمهيدا لابتلاع الدولة.. فأيقظوا الروح المقاوم وغريزة البقاء في كل التيارات السياسية والأيديولوجية.. بل وفي الكتلة الشعبية العريضة الحرجة. وفي حمّي التدافع والمغالبة لحماية الملك العضوض، غاب الوجه الدعويّ الإصلاحي السمح في بئر سحيقة.. وحلّ بدلا منه وجه صارم متجهم.. وراح الإخوان يكذبون.. ويكذبون حتي كاد الكذب يتحول، علي ألسنتم إلي فريضة إسلامية!! مع أن المؤمن لا يكون كذابا كما أخبرنا رسول الله - صلي الله عليه وسلم- أم أنهم يستحلون الكذب علي المجتمع باعتباره مجتمعا جاهليا، وباعتبار أفراده أغيارًا كفارًا كما قال منظّرهم سيد قطب؟! غابت من أفق الممارسة الإخوانية الحجة والمنطق والإقناع.. وحلت محلها المراوغة والمغالطات.. و'موتوا بغيظكم'.. تورات شجاعة الاعتراف بالخطأ وقام بدلًا منها حائط صلب من الإنكار والتبرير.. أقصوا أهل الكفاءة والجدارة والاستحقاق.. وقربوا الأهل والعشيرة والأتباع الثقات.. ارتابوا في إخوة الوطن.. ووضعوا ثقتهم ومعتمدهم في الآخر الأمريكي.. وعدوا الناس بأنهار من لبن وعسل وخمرٍ لذةٍ.. فانتظروا.. ولم يفيقوا إلا علي ثمار فجة مرة!! نهج انقلابي آثرت جماعة الإخوان النهج الانقلابي في التعامل مع الجميع بمجرد أن اطمأنت علي كراسيّ السلطة.. انقلبت علي القوي السياسية التي وقفت بجانبها وساندتها ودعمت مرشحها حتي فاز بكرسيّ بالرئاسة.. ولم يسلم من نهجهم الانقلابي حتي أقرب الحلفاء وهم السلفيون.. ولنستحضر هنا واقعة التنكيل بالقيادي السلفي الدكتور خالد علم الدين، الذي طوحوا به خارج حظيرة سلطتهم، ولم يعملوه حتي بخبر إقالته، بل عرفه من وسائل الإعلام.. وشاهدت الملايين علي الشاشات بكاءه الرجولي الذي انخلعت له القلوب.. وما فعلوا به ذلك إلا انتقاما، لأن القيادة السلفي الدكتور يونس مخيون تجرأ وانتقد نهج الإخوان في الاستحواذ، وأخونة الدولة، وقدم للرئيس 'آنذاك' ملفار رصد فيه ثلاثة عشر ألف وظيفة لأعضاء من الإخوان في الجهاز الإداري للدولة، ولم يكن قد مضي علي حكم الإخوان إلا بضعة أشهر!! أما الانقلاب الكبير الذي أطاح بشرعية الرئس السابق د.محمد مرسي الدستورية والأخلاقية، فقد كان يوم أن أصدر إعلانه الدستوري في 22 نوفمبر 2012، منقلبا علي الدستور الذي تسلم بمقتضاه مقاليد السلطة.. والذي أقسم علي إنفاذه وصيانته!! تحول الرئيس السابق بمقتضي هذا الإعلان إلي ديكتاتور بل إلي نصف إله، حين حصّن كل ما يصدر عنه من 'الإعلانات الدستورية والقوانين والقرارات الصادرة عن رئيس الجمهورية منذ توليه السلطة في 30 يونية 2012، وحتي نفاذ الدستور وانتخاب مجلس شعب جديد تكون نهائية ونافذة بذاتها غير قابلة للطعن عليها بأي طريق، وأمام أية جهة، كما لا يجوز التعرض لقراراته بوقف التنفيذ أو الإلغاء، وتنقضي جميع الدعاوي المتعلقة بها والمنظورة أمام أية جهة قضائية'.. ولم يتبق إلا أن يحشر الدكتور محمد مرسي الناس وينادي فيهم: 'أنا ربكم الأعلي'!! مقولات فاسدة لا يعتمد الخطاب الإخواني علي الحجاج الإقناعي. وآليات المنطق العقلي، بقدر ما يعتمد علي التعمية عبر إطلاق بعض المقولات الفاسدة التي تصبح كالأيقونات الصمّاء التي لا تحيل إلا إلي نفسها.. أو كقنابل الدخان التي تضبب الجو.. وتحجب الحقيقة!! وتأتي أكثر المقولات خطورة في هذا الصدد، مقولة 'القضاء الفاسد' و'تطهير القضاء'.. هكذا 'القضاء' كجهاز تنظيمي، وليس 'القضاة' الذين هم بحكم بشريتهم يجتهدون فيصيبون وقد يخطئون.. كلمة تقال وتشيع دون إدراك للمخاطر التي قد تنجم عن ترديدها داخليا وخارجيا.. ولا بأس من الدعوة إلي مليونية ل 'تطهير القضاء' حتي تترسخ هذه المقولة الخبيثة في الأذهان، دون النظر إلي صدق محتواها أو عدم صدقه، عبر الإلحاح والتكرار.. فرأينا الرجل العادي.. ونصف المتعلم.. والمتعلم.. بل وبعض القانونيين، مع بالغ السوء والأسف، يرددون هذه المقولة.. ويصدرونها- كمسلمة- عند أي جدال.. والأدهي أن القانون نفسه أصبح وجهة نظر تريد كل فئة أن تؤممه لمصلحتها.. فحدثت البلبلة وفقد الناس الثقة في كل شيء!! وقس علي مقولة 'القضاء الفاسد' كثيرا من المقولات التي سكّها الإخوان في حروبهم التشويهية التي لا تراعي أبسط القيم الدينية والخلقية خذ مثلًا: 'الإعلام المضلل'- 'جبهة الخراب'- 'الفلول'.. إلخ جذور التعصب يعاني كل من يجد نفسه مضطرًا للتعاطي مع الخطاب الإخواني من سمة تبدو أصيلة فيه.. هي سمة التعصب للرأي.. وعدم الاقتناع بالرأي الآخر، وكأنهم علي الحق المبين وغيرهم في الغي والضلال سادرون.. أو حتي كأن ناصية الحقيقة المطلقة قد صارت بأيديهم.. فلا فهم يعلو علي أفهامهم.. وهذا عائد إلي تربيتهم الفكرية.. ونهجهم الحركي التنظيمي.. فلنتأمل هذا النص للإمام حسن البنا من رسالته 'بين الأمس واليوم' لنتعرف كيف كان يعد أتباعه ويهيئهم نفسيا لتحمل المشاق في سبيل الدعوة الإخوانية الجديدة!! 'أحبّ أن أصارحكم أن دعوتكم لا زالت مجهولة عند كثير من الناس، ويوم يعرفونها ويدركون مراميها وأهدافها ستلقي منهم خصومة شديدة وعداوة قاسية وستجدون أمامكم كثيرا من المشقات وسيعترضكم كثير من العقبات، وفي هذا الوقت وحده تكونون قد بدأتم تسلكون سبيل أصحاب الدعوات.. سيقف جهل الشعب بحقيقة الإسلام عقبة في طريقكم.. وستجدون من أهل التدين ومن العلماء الرسميين من يستغرب فهمكم للإسلام وينكر عليكم جهادكم في سبيله، وسيحقد عليكم الرؤساء والزعماء وذوو الجاه والسلطان، وستقف في وجهكم كل الحكومات علي السواء، وستحاول كل حكومة أن تحد من نشاطكم وأن تضع العراقيل في طريقكم، وسيتذرع الغاصبون بكل طريق لمناهضتكم وإطفاء نور دعوتكم وسيستعينون في ذلك بالحكومات الضعيفة والأخلاق الضعيفة والأيدي الممتدة إليهم بالسؤال وإليكم بالإساءة والعدوان وسيثير الجميع حول دعوتكم غبار الشبهات وظلم الاتهامات، وسيحاولون أن يلصقوا بها كل نقيصة، وأن يظهروها للناس في أبشع صورة، معتمدين علي قوتهم وسلطانهم، ومعتّدين بأموالهم ونفوذهم.. وستدخلون بذلك ولا شك في دور التجربة والامتحان، فتسجنون وتعتقلون وتنقلون وتشردون.. ما كل هذا؟ إنها المؤامرة الكونية إذا!! جهل الشعب بحقيقة الإسلام 'لاحظ من هنا استمد سيد قطب فكرة جاهلية المجتمع في كتابه معالم في الطريق' العلماء الرسميون، الزعماء والرؤساء، ذوو الجاه والسلطان، كل الحكومات علي السواء.. كل هؤلاء في مواجهة الدعوة الإخوانية.. ويل للبسطاء من أمثالنا، إذن عندما نطمع في أن يستجيب لنا دعاة الإخوان!! ولا يبقي لنا إلا أن نغرق هذا الخطاب المتعالي علي الزمان والمكان والبشر، في بحر من الأسئلة: ما هذا الفهم الجديد الذي أتي به الإخوان المسلمون في الدعوة الإسلامية الثابتة المستقرة منذ أكثر من ألف سنة.. ذلك الفهم الذي كبدهم أهوال السجون والمعتقلات والنقل والتشريد؟ -هل- حقا- وقف العلماء الرسميون والزعماء والرؤساء وذوو الجاه والسلطان وكل الحكومات علي السواء في وجه الإخوان لصد دعوتهم الجديدة أم لسعيهم المحموم للانقلاب علي السلطة.. وقانونها معروف علي مر العصور؟! هل يستحضر الإمام حسن البنا في هذا النص اللحظة التاريخية الأولي للدعوة الإسلامية، فيصبح البنا وإخوانه في موقع الرسول 'صلي الله عليه وسلم' وأصحابه.. ويصبح مجتمعنا الحديث البائس هذا هو قريش الأخري الجاهلة الجديدة التي ينبغي أن تقهر ولو بقوة السلاح لنشر الدعوة الجديدة؟!! وهل نطمع بعد هذا النص المؤسس للعقلية الإخوانية المتصلبة المتعنتة 'الدوغمائية' في أن يستجيب لنا واحد من الإخوان.. أو يقتنع لنا برأي.. أو يبدي بعض المرونة والتسلم.. أو يسمح بالمشاركة إلي جانبه في حكم البلاد..؟! هيهات.. هيهات إنا- إذن- لحالمون!!