'إنما الأمم الأخلاق ما بقيت.. فإن همو ذهبت أخلاقهم ذهبوا'.. ما كادت قدماي تلمسان قاعة المسرح القومي المصري العريق، في كل زيارة أقوم بها، قبل الدمار والحريق، والإهمال والتجاهل.. الذي ألم به منذ ما يزيد علي '6' سنوات، فأرداه جثة مهيضة الجناح حتي يومنا هذا، ولهذا موضوع مستقل متعلق بالفساد الذي ضرب الثقافة في مقتل!! المهم أنه كانت عيناي تقعان علي ذاك البيت من الشعر لأمير الشعراء 'أحمد شوقي'.. وقد كتب بالبنط العريض، وبالخط الكوفي البديع، بامتداد خشبة المسرح، ليحتل هامة الستارة العملاقة، ويتحول للناظرين إلي ما يشبه التاج.. فتبرز حروفه العربية بعد أن تشبعت بماء من ذهب.. لتتحول إلي 'حكمة تشابك بين الفنانين علي الخشبة وبين الجمهور في الصالة.. وكأنه ميثاق شرف يعلي من شأن الأخلاق التي هي عنوان الشعوب، وسر نهضتها وتقدمها. جال بخاطري هذا المشهد.. فانتابني حزن وكدر بالغان، وأنا أصدم في كل يوم عن أخلاق المصريين، ومدي ما وصلت إليه من تدنٍ عام.. ومن انفلات طال الجميع.. فلم تتوقف علي رجل الشارع، وما يتفوه به، ولا علي الفنون التجارية الرخيصة، وأخص بالذكر مجموعة الأفلام التي عرضت في العيد الماضي.. وفيها من الخلاعة، والعنف والابتذال والإسفاف ما يعمي القلوب ويغمرها بالقنوط والجزع!! وأتوقف علي كم السباب الذي كتب علي الجدران، وعلي يافطات الإعلان ليخص بالذكر الفريق أول عبد الفتاح السيسي 'وكأن طاقة الحقد والعدوان التي تجمعت في صدور جماعة الإخوان ولف لفهم ا تتوقف علي ممارسة العنف المادي، والإرهاب الدموي، وإنما أشاعت العنف اللفظي وهو أشد فتكا بميراثنا الأخلاقي، وأعرافنا، وتقاليدنا.. فعندما تسير في شارع ممتد لعدد من الكيلو مترات.. وتتحول فيه المسطحات الإعلامية الواقعة علي جانبي الطريق إلي مجموعة من السباب المنحطة وكأنها متوالية حسابية تضغط علي العين، والأذن، وبالتالي الأعصاب.. ماذا تنتظر من طفل، أو تلميذ يقرأ مثل هذه الشتائم والاتهامات الباطلة!! ربما من هنا طلت علينا العدوانية الشديدة، والاستقطاب الذي يحاول أن يصنع فتنا بين الناس، وشائعات تشيع حالة من الفوضي والارتباك العام. بالطبع ليس الحل أن تخرج علينا الحكومة المؤقتة المرتعشة اليد والإرادة بقانون يحرم فن الجرافيتي.. فهذا مثل الشخص الذي يحارب آفة ضارة ننشر آفات أشد فتكا وضرراً بالمجتمع.. خاصة وأن الشعب المصري لن يتنازل عن مساحات الحرية التي انتزعها بعد ثورة يناير ويونيو.. وهناك فرق بين الجرافيتي كفن ثوري له وجهة نظر نقدية.. أما ما هو منتشر الآن فهو لا يمت للفن ولا للنقد بصلة.. وقد يحكم الحلقة علي الإخوان في كونهم جماعة تحتاج إلي علاج نفسي كما يقول د.أحمد عكاشة رئيس الجمعية المصرية للطب النفسي بعد أن رصد حالة الهستريا التي سيطرت علي 'المعزول' وعلي قيادات الجماعة أثناء محاكمته! إن الأمر يتطلب وقفة من الجميع.. مجتمع مدني ومؤسسات حكومية -ثقافة وتعليم وإعلام- لإحياء قيم غابت عن الشارع المصري بعد عبث طال سنيناً في زمن 'المخلوع' ثم ما قاموا به من يتمسحون بالدين والدين منهم براء.. نعم قامت في مصر ثورتان متعاقبتان يناير ويونيو.. لكن لم يتم بعد إرساء ثقافة مصر الجديدة المنشودة.. التي تلبي مطالب 'العيش والحرية والكرامة الإنسانية والعدالة الاجتماعية'.. إن ناقوس الخطر يقرع الرؤوس بشدة، وبخاصة أمام الكرامة الإنسانية وأمامي ثلاثة مشاهد.. تكاد أن تلخص تلك الحالة التي وصلنا إليها من انفلات أخلاقي.. يقتضي علاجه بأسرع ما يمكن. أولها.. ذاك المشهد المرعب لطلبة جامعة الأزهر الذين حاصروا رئيس الجامعة وانتابتهم حالة هستريا كما يقول د.عكاشة، وهم يقومون بتدمير الجامعة، وتحطيم المنشآت ومحاصرة الإدارة.. المذهل ما رأيناه لمجموعة منهم يقومون بقذف محتويات الإدارة من أوراق وملفات من النوافذ.. وتكسير تليفزيون وإلقائه من الدور العلوي! ما هذا الهراء؟ هل هؤلاء طلبة حقاً؟ هل لهم مطالب؟ ما هي؟ هل مطلب الطالب يتضمن تخريب المنشأة الجامعية التي هي ملك لأجيال قادمة؟ هل يحق للطالب أن يرتكب مثل هذه الأفعال العنيفة والعدوانية ويشيع الرعب في قلوب زملائه قبل أن يشيعها في قلب مجتمعه؟! عشرات الأسئلة تترمي وتظل الإجابة كامنة في هدف الجماعة في إشاعة الفوضي والتخريب لاسترداد الحكم مرة أخري وهذا من سابع المستحيلات. أما المشهد الثاني.. ولعله مشهد يندر وجوده في الأسواق الشعبية أو حتي المناطق التي يطلق عليها العشوائيات، حيث يُكره الخروج عن المألوف والسائد.. والإتيان بما هو شاذ واستثنائي.. أهناك شذوذ أكثر هوافاً من ذاك المشهد الذي رأينا فيه شخصاً، واسمحوا لي أن أطلق عليه شخصا وليس طالبا.. لأن الطالب لا يمكن أن يأتي بهذا الفعل مهما ركبه شيطان الإنس أو الجان.. فهذا الشخص يخلع بنطلونه ليظهر عورته كنوع من النكاية وأو الإزراء أو حتي لاستفزاز قوات الأمن التي تحاول أن تحاصر المكان! وبقدر ما كان هذا المشهد مفزعاً ومقززاً بقدر ما جاء مشهد ذاك الشخص الذي يرفع إشارة رابعة أمام الحاجة 'عواطف' تلك المرأة الشعبية العجوز التي آمنت بالثورة وبالبطل الشعبي الفريق السيسي.. فرفعت صورته مصاحبة لصورة عبد الناصر.. فما كان من ذاك الشخصي إلا أن فهرها إلي الحد الذي لطمها علي وجهها وأوقعها أرضاً.. ولعل هذا الفعل رأيناه مع المناضلة الكبيرة 'شهندة مقلد'، علي أسوار الاتحادية.. عندما حاول أن يكمم فمها أحد هؤلاء المهووسين!! وكأننا حيال نماذج تعاني أكثر ما تعاني من تطرف ليس في فهم الدين فحسب، وإنما في فهم الأخلاق.. الأمر الذي يجعلهم أكثر عنفا وشراسة تجاه المرأة باعتبارها مخلوق ضعيفا ينبغي ترويضه وإهانته حتي لو كانت في سن أمه ومكانتها!! المشهد الثالث ما حدث في قناة 'المحور' وبرنامج '90 دقيقة' الذي تقدمه المذيع 'ريهام السهلي' وهي من الوجوه الهادئة.. ولأن البرنامج مذاع مباشرة علي الهواء، فقد هالها ما حدث من ضيوفها بنفس القدر الذي هال ملايين المشاهدين.. فها هو المحامي الإسلامي الشهير 'منتصر الزيات' ما أن اختلف مع الكاتب الناصري الكبير 'عبد الحليم قنديل' إلا وانهال عليه بالاتهامات الجزافية بأنه حاقد علي كل مسلم!! ثم إذ به يقذفه في وجهه بكوب الماء الموضوع أمامه، يتمسك د.عبد الحليم برباطة جأشة ويستمر في الحوار الذي لا يري فيه 'الزيات' أي مخرج أو متنفس، فقد وضعه في مأزق، حد أنه ظل صامتًا لدقائق طوال في نهاية الحلقة.. لأنه لا يملك حجة أو سنداً.. لكن د.عبد الحليم المعروف عنه أنه لا يمكن أن يترك ثأره.. فإذ به يفاجئ الجميع في نهاية الحوار بقذف الزيات بكوب ماء آخر بارد!! وهكذا استبدلنا حق الاختلاف الذي هو ركن أصيل من إرساء الديمقراطية بحق التراشق بالمياه، ورشها في وجه الآخر.. فإلي أين يدفعنا هؤلاء المتأسلمون ولا نقول الإسلاميون؟! اليوم يرشقوننا علي الهواء مباشرة بالمياه.. فماذا سيفعلون بنا وعلي الهواء غداً؟! هل نستسلم إلي هذا السلوك الشائة والشائن.. هل سيسحبون النخبة أو الطليعة علي أرضيتهم أم أن العكس هو المطلوب. نعم المطلوب وقفة.. وميثاق شرف إعلامي وثقافي جاد وحقيقي.. فاعل وفعال.. بين النخب حتي لا تعم الفوضي، ويزداد الارتباك المجتمعي ارتباكاً!! لأن في النهاية هذه النخب هي الموكول إليها توعية الناس بثقافة مصر الجديدة المنشودة، وأخلاقيات البناء والنهوض، لا الترويع والترهيب.. فهل فاقد الشيء يعطيه؟! وكما يقول الشاعر الكبير فاروق جويدة.. 'هناك من يري أن الولاء للوطن بدعة، وأن تحية العلم خرافة، وأن النشيد الوطني أكذوبة، وأن الفن جريمة، والجمال ضلال.. نعم هناك أشياء كثيرة سلبت منا أشياء تبددت 'بل أكاد أجزم بأنها تبدلت.. فمن الذي سيستردها.. ويستعيد عافية الوطن إذ كانت نخبتنا علي هذا الشاكلة؟1