بعد أن ضاق منفي جوانتانامو بسكانه الواقفين منذ عقود علي شفير الموت، قرر ساكن البيت الأبيض أن يخرج من سباته الوجودي ليصدر قرارا بائنا بإسقاط الأغلال التي في أعناق الرجال والكلاليب التي في أقدامهم، ليؤكد للظانين بوعوده ظن السوء أنه قادر علي تحقيق بعض - أي بعض - مما وعد به أثناء حملته الانتخابية. لكن قراره الذي لم يكن مفاجئا قوبل بعاصفة من الرفض والاستهجان من قبل الجمهوريين في الكونجرس حين طالب بتحويلهم إلي السجون الأمريكية لأنهم يرون أن أبناء الولايات أولي بسجونها. ولأن القانون داخل الولايات غير قانون الولايات خارج حدودها الشائكة، وهو قطعا لن يسمح بحبس من لم تثبت عليه الإدانة لإرضاء الحلفاء عبر الحدود.ولهذا لم يكن أمام الرجل مفر من تسفيرهم إلي بلدانهم. لكن قرارا متعجلا بإعادة المعتقلين إلي ديارهم يحمل بين فكيه خطورة إقليمية وتهديدا لوجستيا للمصالح الأمريكية في المنطقة، لاسيما إذا استطاع المحررون التواصل مع التنظيمات الساخطة علي التدخل الأمريكي السافر في شئون المنطقة. كما أن بإمكان رجال القاعدة الذين استطاعوا بسط أيديهم علي بعض الأجزاء من خرائطنا المهلهلة استعمال القادمين من معسكرات الموت في تنفيذ عمليات عنف ضد المصالح الأمريكية في البلاد.وإن عاد الأسري مصفدين إلي سجون بلادهم، فلربما استطاع الثائرون علي سلطان الولاة هناك أن يفتدوهم أو يحرروهم في غضون ساعات. الحل يكمن إذن في تحرير الأسري من سجون جوانتانامو مع بقائهم رهن اعتقال آخر، وأن يعودوا إلي أوطانهم دون أن يدخلوها، وأن يسجنوا في بلادهم دون أن تدون أسماؤهم في سجل المعتقلين. ولأن الحلفاء في شرقنا الأوسطي أحن علي أوباما من قلب آنا دانهام، وأقدر علي إيجاد مخارج قانونية وغير قانونية لكافة معصلات السياسة خاصة ما يتعلق منها بالسجون والمعتقلات، اقترح السيد عبد ربه منصور هادي حلا يحظي برضا الجميع - إلا الأسري وذويهم والباحثين عن الحرية الحقة في بلاد ما بين الثورات طبعا. في دفعة أولي، سيغادر المعتقلون اليمنيون، والذين يشكلون أكثر من نصف سكان جوانتانامو سواحل كوبا عائدين إلي مساقط تهجيرهم، لكنهم لن يدخلوها آمنين قبل المرور علي مصح نفسي يعاد تأهيلهم فيه. والتأهيل مصطلح فضفاض، لكنه يعني هنا تحديدا التخلي عن العنف ونبذ الأفكار المتطرفة وتطليق الإرهاب طلاقا بائنا، علي أن يتولي حراسة منفي التأهيل حراس أجلاف لا يرقبون في فار من المصح إلا ولا ذمة. لكن خطة التأهيل تلك لا زالت في طور التكوين، إذ يكتنفها عدة عقبات كأداء تحول حتي اللحظة بين الأصابع المتشابكة علي طاولة المفاوضات. فالجمهوريون بالكونجرس يرفضون بالإجماع تمويل مشفي التأهيل من أموال دافعي الضرائب الأمريكان، ويقسمون بوكيد الأيمان أن جنودهم لن يذهبوا إلي هناك لحماية ثلة من المتطرفين علي أطراف حدودهم بحجة أن أهلهم أولي بإصلاحهم - إن أرادوا إصلاحا. ولأن أوباما لا يريد أن يدخل في صراع آخر مع المتربصين بما تبقي له من تفويض، قرر الرجل اللجوء إلي المملكة العربية السعودية للإشراف علي المشفي تمويلا وتأهيلا. صحيح أن موقف الأشقاء في المملكة لم يتحدد بعد، إلا أن المتحدث باسم البيت الأبيض يبدو واثقا من نجاح مخططه. أي أن المشفي المؤمن من جهاته الأربع لن يقع تحت وصاية الأمريكان، ولن يحتاج إلي استجداء الجمهوريين لرفع أصابعهم داخل الكونجرس، وهو أمر في غاية الأهمية بالنسبة لرئيس تتقلص دائرة التأييد الشعبي وشبكة التحالفات الدولية تحت قدميه كل يوم عشرات المرات. ورغم ذلك، يظل في سلة التوقعات احتمال لم تتحسب له إدارة الرئيس أوباما ولا مستشارو السيد عبد ربه منصور، وهو استعصاء السجناء موضوع البحث علي التأهيل. ماذا لو رفض أصحاب الترانزيت القهري الانصياع إلي برامج التأهيل والاعتراف بمشروعية التدخل الأمريكي في شئون بلادنا الداخلية؟ ماذا لو ظل الخارجون علي الإجماع العربي يغردون خارج سرب التحالفات، وظلت نظرتهم لأمريكا وحلفائها ظنية وعدائية؟ ماذا لو رفض المتهمون بلا دليل والمسجونون بلا بينة الاستجابة لنداءات أصحاب اللحي السياسية المنمقة، وقلبوا الطاولة في وجوه أطبائهم النفسيين ورفضوا التعاون معهم؟ هل تقرر سلطات المشفي إغلاقه أمام الزائرين واستعارة أصفاد جوانتانامو وممارساته القذرة ليمنح أصحاب الترانزيت إقامة جبرية علي حدود بلادهم؟ هذا ما يرفض أعضاء الكونجرس 'الشرفاء' التعليق عليه أو التعرض له، لأنهم ببساطة لا يضمنون طبيعة الممارسات التي ستتم علي أرض ليست لهم وفي أرجاء مصح لن تشرف عليه طواقم حراسة منهم. من جوانتانامو أمريكي إلي جوانتانامو عربي سيرحل خمس وخمسون يمنيا ليكملوا طريق العذاب الذي بدأوه في جوانتانامو ولم ينهوه داخل حدودها. ومن سجن إلي سجن أيها العربي لا تحزن، فقدرك أن تظل متهما بلا إدانة، سجينا بلا جريرة، طريدا بلا عدالة، لأن السيد الأبيض قرر بقاءك خارج أسوار الزمان والمكان. 'أعتقد أن مصحا كهذا لا يجب أن يقام إلا بعد التأكد من وجود برنامج تأهيل فعلي، ' تقول أندريا براسو المستشارة الأولي في برنامج مكافحة الإرهاب وحقوق الإنسان في منظمة هيومان رايتس وتش 'إذ لا يعقل أن يتم احتجازهم 'تقصد المحررين اليمنيين' هناك دون رغبة منهم.' لكن السيدة براسو نسيت أو تناست عمدا أن أحدا من هؤلاء الأسري لم يؤخذ رأيه ولم يرجع إليه قبل اقتياده إلي سجن جوانتانامو الشهير دون ذنب وبلا إدانة ليذوق ما لا عين رأت ولا أذن سمعت من عذابات وويلات لسنوات عجاف. ونسيت السيدة براسو أن تزور عشرات المشافي العربية لتتأكد أن المحجوزين هناك لم يقتادوا مغمضي الأعين إلي محابسهم القذرة دون إذن منهم. ونسي رجال الكونجرس الشرفاء ما نال هؤلاء علي أيدي رجالهم في رقعة من جهنم أشرف زبانيتهم فيها علي شبابنا تأهيلا وسحلا. اليوم يتذكر هؤلاء أن الشريعة الأمريكية لا تهاجر مع المحتجزين إلي بلادهم، ولا يشرف علي معسكرات تأهيلهم، وكم أشرفوا علي مشاف في بلادنا المستباحة واقتادوا الأسري دون إذن منهم ليمارسوا تعذيبا ممنهجا خارج حدود قوانينهم الإقليمية. قريبا سيعود الأسري اليمنيون إلي حدود أوطانهم، ولكنهم لن يعودوا بنفس الوجوه التي ذهبوا بها، وحتما سيجد معالجوهم صعوبة بالغة في إعادتهم إلي الحياة، لأن جوانتانامو سيء السمعة قد سلبهم آدميتهم وإن لم يسلبهم أرواحهم.