في مجتمع البشتون المحافظ وعلي الحدود بين باكستان وأفغانستان، ولدت ملالا يوسفزي عام 1997. لكن فتاة وادي سوات البسيطة استطاعت أن تثير دوامة سياسية عاصفة جابت الأرض من مشرقها إلي مغربها، ومكنتها من حصد حزمة من الجوائز المحلية والعالمية وقدرا لا يستهان به من الشهرة، وهو ما أهلها فيما بعد لنيل جائزة ساخاروف والحصول علي الجنسية الكندية الفخرية بقرار من البرلمان الكندي. لم تكن يوسفزي في الحقيقة أكثر جرأة من زميلاتها العشر اللواتي رافقنها إلي مدرسة فقيرة الموارد بإحدي ضواحي مدينة منغورة متحدين قرار حظر التعليم الذي فرضته حركة طالبان علي الفتيات ظلما وعدوانا هناك. ولم تكن تعلم وهي تجر خطاها المتعثرة فوق طرق المدينة غير الممهدة أن التاريخ يرافق أقدامها الصغيرة نحو مجد ربما تستحقه. بعد انتهاء دروس ثلاثاء مشهود، لفت ملالا شالها المطرز حول رأسها الصغير وضمت كتبها إلي صدرها وانطلقت مع رفيقاتها نحو حافلة متهالكة تنتظرهن قرب بوابة المدرسة. لكن الحافلة لم تكد تنطلق حتي أوقفها ملثمان يحملان الحمق والبغي والعدوان. لم يفكر المتربصان وهما يوجهان فوهتي الكراهية نحو رأس ملالا الصغير أنهما يطلقان رصاصة حمق أخيرة علي صبر الحكومة الباكستانية علي جرأة طالبان هناك، وأن دوي الرصاصة سيصل إلي الرابضين فوق مقاعد الأممالمتحدة الوثيرة في الطرف الآخر من العالم الحر، لكن هذا بالفعل ما حدث. لم يكن ذنب ملالا، وربما كان ذنبها، إلا أنها مارست حقها في التعلم في مجتمع يكتنفه الجهل من كل جانب وتعشش فيه نظريات جاهلية جاهلة نسبت زورا وإفكا إلي الإسلام، وهو منها براء. لم تمهل فتاوي القبح فتاة في الرابعة عشر من حلمها كي تمارس لهوها المباح في مدن العلوم. لكن الهواء الذي تسرب من جمجمتها الصغيرة استطاع أن يغير هواء المدينة الراكد، وأن يمكن مئات الفتيات من التقدم نحو حافلات سوات وهن يضممن كتبهن إلي صدورهن آمنات مطمئنات. وهكذا استطاعت مدونة ربما لم يلتفت إليها من رواد الإنترنت أحد أن تحرك آلاف الجند نحو مدينة نسيها التاريخ وأن يقوض نفوذ طالبان في هذا الطرف المحروم من الحريات والوعي. كتبت ملالا في مدونتها ذات يوم أن رغبتها في التعليم أقوي من خوفها من بنادق طالبان وأنها مصممة علي إكمال تعليمها مهما كلفها التحدي من تضحيات. لكنها صرحت في أكثر من موقع هناك أنها تشعر بالخوف وأن أحدا ما يتربص بحلمها المتواضع جدا. وذات ليلة، رأت في منامها طائرات الهليكوبتر تحلق فوق حلمها ورشاشات تطارد أمانها. لكن أحدا من عرافي قومها لم يعبر لها حلمها، ولم ينبئها أنها سترشح لنيل جائزة نوبل تقديرا لرصاصة غدر حقيرة تثقب رأسها العنيد ذات عودة غير آمنة في حافلة متهالكة. لكن حكاية ملالا لم تنته هنا، فبعد عام من تطبيبها في مشفي إنجليزي والحاقها بمدرسة إنجليزية، عادت ملالا إلي صدر الصفحات المطبوعة بلغة قومها وكافة لغات أهل الأرض المتابعين. فقد صرح امتياز علي زانخاي، وهو طبيب باكستاني يمتلك مشفي خاصا وعيادة خاصة في سوات، أن تحليل الدي إن إيه يثبت بما لا يدع مجالا للهمز بأن ملالا يوسفزي ليست بشتونية الأصل وأنها تنتمي إلي القوقاز وتحديدا بولندا، وأنه تذكر حين قرأ قصة ملالا بعد عام أنه كان يحتفظ، كعادته، بشحم من أذن تلك الطفلة التي زارته في العيادة ذات التهاب في الأذن الداخلية. لكن تصريحات الطبيب المتأخرة والغريبة نوعا ما لم تمنع بعض الجرائد الباكستانية مثل جريدة لاهور تايمز من إعادة نشر تفاصيل تلك القصة التي قد تكون، طبقا لشهادة زانخاي، مختلقة من الأساس لضرب حركة طالبان في صميم وجودها فوق التراب الباكستاني غير المتجانس. بقي أن نتساءل عن سر اهتمام العالم من أقصاه إلي أقصاه بقصة طفلة 'بشتونية' بائسة، وتجاهله لآلاف الأنات من فتيات أجبرتهن ظروف معيشية قاهرة علي بيع الكتب وما هو أثمن من الكتب لشراء الرغيف في عالمنا العربي المشحون بالاغتصابات والألم؟ بقي أن نفهم لماذا يغض الغرب الطيب جدا بصره عن آلاف المدونات التي تتحدث عن انتهاكات غير معقولة في بقاع مختلفة من العالم غير الحر كبورما، وما يتعرض له آلاف المسلمين الروهنجا هناك من قهر وذبح وحرق واغتصاب. تستحق ملالا يوسفزي آلاف الجوائز من عالمنا الإسلامي، وتستأهل تكريما يليق بجهادها في سبيل تحصيل العلم في كافة أنحاء المعمورة، وفوق منابرنا الإسلامية خاصة إن أثبت تحليل الدي إن إيه أنها فتاة بشتونية أصيلة لم تنل ما نالته من الشهرة إلا لرصاصة جاهلة اخترقت جدار جمجمتها الهش. ويمكننا أن نصدق نظرية المؤامرة التي انتهجها طبيب الأذن الباكستاني الشهير وأن نروج لها علي صفحات التواصل الاجتماعي، لكن هذا لن يغير من مصير القصة شيئا، وستظل قصة فتاة بشتون تملأ الصحف والأبصار طالما أننا نعيش في عالم لا يسعي لكشف الدي إن إيه عن نواياه القبيحة وقصصه المشكوك في نزاهتها. عبد الرازق أحمد الشاعر أديب مصري مقيم بالإمارات [email protected]