الحلقة الأولي: كانت عملية 'الثغرة إعلانًا بفشل زحزحة رؤوس الجسور المصرية في سيناء.. تعبيرا عن الهزيمة الإسرائيلية الساحقة في معركة الدبابات الكبري. ارتبط مصير عملية ' الثغرة ' بمصير معركة السويس وكان صمود السويس تدميرا للهدف الاستراتيجي من ورائها. عندما سري قرار وقف إطلاق النار لم تكن القوات الاسرائيلية قد تمكنت من قطع طريق القاهرةالسويس ولكنها تقدمت بالخديعة تحت ستار القرار مرّ رتل إسرائيلي مدرع عند شركة البترول وعندما تم اتصال بالمحافظ قال لهم 'اطمئنوا إنها دبابات مصرية'! شهادات العسكريين الإسرائيليين ناطقة بجبل النار الذي حاولوا أن يدفنوا المدينة تحته فقد دمروا 85% من بيوتها. كانت طرقات الدبابات الإسرائيلية علي أبواب السويس يوم 23 أكتوبر مفاجئة لكل الناس ولم ترد أول إشارة من القاهرة حول اقتراب الاسرائيليين من المدنية إلا في مساء اليوم التالي. أعلن الاسرائيليون سقوط السويس يوم 24 أكتوبر قبل أن يحاولوا اقتحامها، وقد ظنوا أن سكانها قد هربوا إلي جبال عتيقة وجنيفة عندما بدا أن القوات الإسرائيلية علي الابواب اقتحم فدائيو منظمة سيناء سلاحليك 'المستشفي العام' ولم يجدوا إلا قذائف آر.بي. جي و3 مقذوفات قسّم الفدائيون أنفسهم علي مداخل المدينة في ثلاثة أكمنة.. ومكثوا طوال الليل في انتظار الدبابات الإسرائيلية فجرا.. مدخل ضروري إلي 'معركة السويس' الهزيع الأخير من الليل.. كنت ما أزال جالسا فوق لسان صخري علي حافة البحر الأحمر: أقلّب عيني في الأفق تتوهج أمامي شعلة بترول الزيتية، وتشتعل أضواؤها في مياه السويس، وإلي الغرب تبدو ظلال داكنة لجبل عتاقة، وإلي الشرق تتمدد القناة، أما المدينة فكانت لا تزال ورائي في سباتها الليلي العميق.. كان كل شيء يبدو نظيفا ولامعا، كأن الملائكة قد غسلته والناس نيام. أحسست للوهلة الأولي أنني أسمع صوت البحر.. وكأنني أدخل دائرة الوعي فجأة.. عندما تقف هنا تتذكر ما كتبه الأب انفاتنا زعيم السيمونيين قبل قرن ونصف قرن قال: 'هنا نضع قدماً علي نهر النيل. والأخري في بيت المقدس بينما نمد يداً في اليمن ومكة، ونتلمس بالأخري روما متكئة فوق باريس'. إنها قلب العالم القديم. وقبلة الحديث، وقبل ذلك كله، متراس العالم الثالث، وخندق دفاعه الأول والأخير.. كنت لا أزال أتأمل جوانب الصورة، حيث وقعت في يدي شهادات إسرائيلية موثقة لعدد من القادة والضباط الذين حاولت كتائبهم من المدرعات والصاعقة اقتحام مدينة السويس. كانت الشهادات ناطقة بحجم جبل النار الذي حاولوا أن يدفنوا المدينة تحت ركامه، فقد بلغت نسبة التدمير في بيوتها 85%، هي أعلي نسبة دمار لحقت ببيوت سكان مدينة في الحروب المعاصرة والحديثة، كما كانت أكثر نطقا وتعبيرا عن صلابة المقاومة التي واجهتهم وعن البطولة غير المسبوقة التي أبداها شعب السويس وعن سبيكة تلك الوحدة التاريخية بين الشعب والجيش. هكذا دفعت شراعي قبل خمسة وعشرين عاما، صوب السويس وأمضيت أياما مضيئة بوجوه الرجال الذين كانوا علي رأس أمواج المقاومة، التي مزقت القوات الإسرائيلية وردتها مهزومة. وأحسب أنني لم أترك وجها واحدا كان علي صلة مباشرة بالحدث أو شاهدا له، أو قريبا من دوائره، أو عابراً بين أضوائه وظلاله، إلا وسجلت علي لسانه وقائع تلك الأيام، ولقد راعني ساعتها أن الشهادات علي الجانبين الإسرائيليون المهاجمون والمصريون المقاومون، كادت أن تكون متطابقة من حيث تفاصيل الصدامات المباشرة بالحديد والنار عند مداخل السويس، فلم يخف الاسرائيليون دماءهم ولا صدمتهم ولا دموعهم ولا أنينهم، وهم محاصرون في الزوايا والأركان، تتعالي صرخاتهم 'أماه.. أريد أن أعيش'. كنت أسعي إلي بناء صورة واقعيّة حيّه، ترتكز علي قواعد راسخة لشهادات موثّقة من العسكريين الإسرائيليين الذين حاولوا حصار السويس، ومن المقاومين والمقاتلين المصريين الذين نجحوا في حصار حصارهم، وردوهم علي أعقابهم يجّرون علم الهزيمة وراءهم، بينما بقي علم النصر ثابتا فوق رأس المدينة، وكأنه ليس مصنوعا من قماش، وإنما من لحم ودم. لقد نشرت جانبا من هذه الصورة قبل ربع قرن ويبدو أن الإسرائيليين هم الذين قرأوها، وأثارت لديهم ما يستحق المتابعة، فقد تلقيت ثلاثة عشر اتصالا من هناك، لم يكن بمقدوري بالطبع أن أتواصل معها. أما لماذا أعيد الآن قراءة المعركة من منظور المقاومة الشعبية، فمرد ذلك لعدة أسباب: أولا: إن أدوار هؤلاء الرجال الذين صنعوا بطولة أسطورية، تستحق أن يعاد وضعها تحت شلال من الاضواء، و أن يعاد دمجها في مفردات معركة خالدة، ينبغي ألا تغيب صورها ووجوهها وبطولاتها، ذلك أنها في البداية والنهاية، إنما تعكس معدن هذا الشعب العظيم، الذي هو أقدم شعب مقاتل في التاريخ. ثانيا: إن معركة السويس لم تكن منفصلة عن مشاهد البطولة والفداء في حرب أكتوبر المجيدة، وإنما كانت حلقة بالغة الأهمية في سياقها، فقد ارتبط مصير عملية ' الثغرة ' كلها بمصير السويس، وكان صمود السويس التي حولت دبابات العدو علي مداخلها إلي حطام وركام، نقطة حاسمة في تدمير الهدف الاستراتيجي الإسرائيلي من وراء عملية 'شارون' التي وصفها الجنرال 'بوفر' بأنها 'لم تكن عملية عسكرية، وإنما مظاهرة تليفزيونية'. ثالثا: هناك حلقتان سابقتان علي معركة السويس / كانتا تستحقان بجدارة أن تكونا مدخلاً طبيعيا إليها، الأولي هي معركة الدبابات الكبري في سيناء، والتي امتدت متصلة بين يومي 15 و 25 أكتوبر، وهي واحدة من كبري معارك الدبابات في التاريخ العسكري كله لا تقارن إلا بمعارك العلمين وستالينجراد، وقد كانت النسبة الأكبر من دبابات العدو المدمرة والتي بلغت علي مدي احتدام المعركة التصادمية 1000 دبابة في هذه الأيام العشرة. والثانية هي عملية 'الثغرة' نفسها، والتي تلت بداية المعركة الاولي مباشرة، حين لجأ العدو إليها كجبهة جديدة، في ضوء تدهور موقفه ونزيف خسائره علي جبهة المعركة الاولي، وقد كنت أتمني أن تكون دراسة لي موسّعة عن 'الثغرة' مقدمة لهذه المحاولة، لكنها للأسف كتبت من صورة واحدة بخط اليد، ثم اعتمدتها لجنة عسكرية عليا لكن صورتها لم تُردّ إليّ منذ أكثر من عشر سنوات. رابعا: لم يقطع العدو طريق السويس ولم يصل إلي حصار المدينة من الشمال والغرب والجنوب، إلا بعد قرار وقف إطلاق النار، فقد استغل بالخديعة القرار، ونشر قواته مفكّكة علي الضفة الغربية، وقذف بقوات إضافية، وقد ضاعف بذلك مساحة انتشاره ثلاث مرات، وإذا كانت السويس قد حوصرت بالخديعة والغدر، فقد كانت قوات العدو كلها علي الضفة الغربية محاصرة مواقع ووجوداً. خامسا: لقد كانت السويس متصلة طوال أيام الحصار بجناح الجيش الثالث شرقاً، وكما كانت ظهيراً للجيش الثالث غرباً، فقد ظل الجيش الثالث ظهيرا لها شرقا وغرباً، وفي أوج المواجهة والحصار، فقد كان مقاتلو الجيش الثالث في القلب منهما، وإذا كان التركيز هنا علي المقاومة الشعبية، فإن بطولات ضباط وجنود الجيش الثالث الميداني تبدو بحكم ما توافر من معلومات، في ومضات قليلة، ولكنها قوية وموحية. وبعد.. فتلك ورقة واحدة من دفتر المجد الوطني، تتحدث عن نفسها وقد جمع كل حرف فيها بحب ودأب، ووثقت كل كلمة فيها بدقة وأمانة.. في الطريق إلي السويس تمتد المسافة علي قناة السويس بين مدينة بورسعيد أقصي الشمال ومدينة السويس أقصي الجنوب بطول مائة وثمانين كيلو مترا.. ومنذ أن بدأ المصريون في بناء خط دفاعي أول علي الضفة الغربية لقناة السويس في أعقاب حرب 1967، تقرر تقسيم هذا الخط الدفاعي إلي منطقتين، تمتد الأولي من الأدبية، جنوبيالسويس حتي منطقة البحيرات المرة، وتمتد الثانية من منطقة البحيرات المرة، حتي شرق بور فؤاد في أقصي الشمال. وقد أصبحت المنطقة الأولي هي نطاق عمل الجيش الثالث الميداني، بينما شكلت المنطقة الثانية نطاق عمل الجيش الثاني الميداني. وفي صباح يوم 9 أكتوبر 1973 حين تم تدمير لواء الجيش الإسرائيلي 190، كانت القوات المصرية، قد أكملت بنجاح كامل عبور كامل الوحدات المقاتلة، للفرق الخمس التي تكوًن الجيشين الميدانيين. وأقامت رؤوس جسور قوية علي الضفة الشرقية بعمق يتراوح بين 10 و12 كم. كان الواضح للإسرائيليين أنهم يحصدون هزيمة ثقيلة، وأن رؤوس الجسور المصرية قوية ويستحيل إزاحتها، لكن الصدمة في صفوف الإسرائيليين كانت لا تزال هائلة. في اليوم التالي '10 أكتوبر'، كان الإسرائيليون قد بدأوا مع قناعتهم باستحالة زحزحة رؤوس الجسور المصرية، يفكرون في القيام بعملية التفاف وتطويق. واختاروا لذلك منطقة الدفرسوار، أو البحيرات المرة، أي المفصل بين الجيشين الثاني والثالث الميدانيين. والواقع أن ذلك لم يكن ابتكارا أو إبداعا، وإنما كان نسخا ومحاكاة لمحاولة الجيش العثماني في الحرب العالمية الأولي شق وحدات الجيش البريطاني في سيناء باختراق منطقة الدفرسوار نفسها وصولا الي قناة السويس والالتفاف حول القوات البريطانية علي الضفة الغربية للقناة، وهي مغامرة انتهت في حينها بالفشل الذريع، وتكبد الجيش العثماني من جرائها خسائر فادحة، وباء بهزيمة منكرة، ولذلك لم يكن اختيار منطقة الاختراق غريبا أو مدهشا، فحسب كلام شارون، فقد اختار هذه المنطقة، ودرس احتمالاتها، ووضع لها خطة عبور مضاد، منذ عام 1969، وحسب كلام الفريق أول محمد فوزي، فقد واجهت القوات المسلحة المصرية، عند إجراء المشروع العام للخطة '200' بين 14/3/1971 و 25/3/1971. احتمال أن يقوم العدو الإسرائيلي باختراق هذه المنطقة علي وجه التحديد، ودفعت الفرقة'23 ' الميكانيكية لمواجهة هذا الاختراق، وتدربت عمليا علي مواجهته 7 مرات متتالية. لقد كان المفروض أن يبدأ الاختراق يوم 14، خصوصا بعد أن اكتشفت طائرتا تجسس أمريكيتان، يوم 13، حجم الفجوة، الموجودة في المنطقة، لكن الهجوم تأجل إلي يوم 15 بسبب محاولة القوات المصرية تطوير هجومها في سيناء في اليوم نفسه. في مساء يوم 15/10 اشتركت 4 ألوية إسرائيلية في محاولة العبور لكن الدفاع المصري علي طريق الطاسة 'المزرعة الصينية' كان عنيفا للغاية. ورغم تسلل بعض المظليين الإسرائيليين إلي الضفة الغربية، لكنهم فشلوا في إقامة رأس جسر. ومع فشل العدو لجأ إلي عبور مائة مظلي علي قوارب مطاطة، مع سبع دبابات برمائية وعشر ناقلات جنود، لكن هذه القوة أصيبت بخسائر فادحة. كانت المقاومة ضارية، وحسب الوصف الإسرائيلي، فقد شوهد في جانب من ساحة المزرعة الصينية دبابة 'باتون' إسرائيلية محترقة، علي بعد متر واحد من دبابة 'ت 55' مصرية، كانت مصابة، بينما تلامس مدفعا الدبابتين. في صباح اليوم التالي بدأ المظليون الإسرائيليون في الانتشار في جماعات لتدمير قواعد الصواريخ المصرية، وخلال 37 ساعة تالية بعد أول ضوء يوم 16 لم يكن لدي الإسرائيليين علي الضفة الغربية سوي 200 جندي و30 دبابة. وكان يمكن سحق العملية بشكل كامل. وحسب شهادة 'عاموس' قائد قوة حماية الجسر الإسرائيلي، فإن 'القصف المدفعي المصري كان مخيفا، وما كدت أدخل مجنزرتي حتي سمعت الصفير وسقطت قذيفة، وانفجرت علي ساحة متر واحد، كان الانفجار هائلا، واشتعلت سيارة الوقود، وانفجرت سيارة الذخيرة، كنت واثقا أنها نهايتنا.. وسمعنا تأوهات الجرحي، وأصواتا تستغيث من كل حدب'.. ورغم أن الجسر الإسرائيلي قد أصبح جاهزا يوم 17/10 وبدأت فرقة 'أدن' في العبور، إلا أن القوات المصرية الخاصة، أبدعت في البطولة والاستبسال. وخاضت ملحمة عظيمة من الفداء. ونجحت في الوصول إلي نقطة عبور القوات الإسرائيلية، لكن أمرا صدر لها بالتراجع، وحسب رواية أنور السادات فإن الفريق الشاذلي هو الذي أعطي هذا الأمر، وحسب رواية الفريق الشاذلي فإن السادات هو الذي حال دون تصفية الاختراق. علي المحور الجنوبي ركز الإسرائيليون اختراقهم علي محاولة الوصول إلي طريق القاهرة - السويس– وقطعه، وكان الهدف تطويق الجيش الثالث الميداني من خلال تطويق المدينة وحصارها، ثم اقتحامها وقطع خطوط الإمدادات، وإبادة فرقتين مصريتين كاملتين علي الضفة الشرقية للقناة. لم يتوقف القتال والمقاومة المصرية، في الطريق إلي السويس، وحين سري قرار وقف إطلاق النار يوم 22/10 لم تكن القوات الإسرائيلية قد تمكنت من قطع طريق القاهرة – السويس بعد، لكنها أدخلت في اليوم التالي لواءً مدرعا جديدا تحت ستار وقف إطلاق النار، وبعد أن تكبدت في عنق الثغرة وجيشها خسائر مروّعة، تحولت المنطقة بما فيها مياه القناة الي مقبرة حقيقية لدباباته وأفراده، تمددت قوات العدو إذن تحت ساتر وقف إطلاق النار، واندفعت في طريقها فاستولت علي الأدبية جنوبالسويس، ثم وقفت علي أبواب السويس وأنذرتها، وأعلنت سقوطها مطمئنة قبل أن تدخلها وحاولت بعد ذلك، في تمام الساعة الحادية عشرة وعشرين دقيقة من صباح يوم 24/10 أن تقتحمها بقوة كتيبة مظلات، وكتيبة مدرعات، حيث دارت معركة تاريخية من طراز فريد. علي أبواب السويس كانت طرقات الدبابات الإسرائيلية علي أبواب السويس يوم 23، تبدو مفاجئة تماما لكل الناس. داخل المدينة.. بل كانت المفاجأة شاملة، ومروعة، ابتداء من أصغر عامل في 'الزيتيات' وانتهاء بمحافظ المدينة، محمد بدوي الخولي.. نعم كانت هناك بعض المقدمات والدلالات، والتي يمكن أن تشير إلي اقتراب القوات الإسرائيلية، لكن الذين رأوا هذه المقدمات رفضوا أن يصدقوها.. وعندما عاد المهندس 'محمد البهنسي' – نسيب الفدائي 'ابراهيم سليمان' إلي السويس، من المزارع القريبة، يوم 21/10 قال لبعض أصدقائه، إنه رأي الإسرائيليين وقد وصلوا إلي منطقة 'كبريت'، لكنهم نهروه وكذبوه، واتهموا أعصابه بأن التلف قد أصابها. وعندما عاد في يوم 22/10 وقال لهم إن الإسرائيليين قد وصلوا إلي منطقة الجناين، هدده أصدقاؤه، وأغلبهم أعضاء في منظمة سيناء، بأنهم سيمارسون معه العنف، إذا عاد إلي ترديد مثل هذه الشائعات الكاذبة. وفي مساء اليوم نفسه '22/10' خرج بعض عمال وموظفي شركة السويس لتصنيع البترول التي تبعد عن المدينة 8 كيلومترات، علي أصوات جنازير مجموعة من الدبابات تمر أمام أبواب شركتهم. كان الظلام قد هبط، لكنهم استطاعوا أن يميزوا علي بعد أمتار منهم قولا من الدبابات، أحصوا عدده فتبين لهم أنه يتكون من عشر دبابات. اعتقدوا أنها دبابات مصرية، غير أنه حين مرت بهم آخر دبابة من القول، ألقت تحت أرجلهم. صندوقا خشبيا، وحين ذهب فوزي يوسف وعلي عبد العزيز. وأخذاه تبين لهما أنه صندوق ذخيرة سوفيتي، به فوارغ طلقات مدفع، ولاحظا رغم الظلام الدامس، أن الصندوق مكتوب عليه أنه عهدة الشاويش عبد الله بخط رديء.. ! بعد خمس دقائق أخري، مر قول مدرعات آخر، وحين وصلت الدبابة العاشرة إليهم، ألقي قائدها صندوقا ذخيرة آخر مماثل للأول. بعد خمس دقائق أخري، تكرر المشهد، قول آخر، وصندوق ثالث، تقذف به الدبابة العاشرة. لاحظوا بعد كثير من التفرس أن الصناديق جديدة، وأن الفوارغ من النحاس اللامع، وتبين لهم أن جميع الدبابات التي عبرت بهم كانت بلا أرقام، ولا علامات وتبدو جديدة تماما. شك فوزي يوسف في الأمر، اتصل بمكتب المحافظ، رد عليه سيد قناوي مدير المكتب والعلاقات بالمحافظة، حكي فوزي له حكايات الدبابات الجديدة، والصناديق الخشبية، والفوارغ النحاسية. فضل سيد قناوي أن يسمع المحافظ بنفسه، وكرر فوزي الحكاية بدقائقها وتفاصيلها علي مسمع المحافظ من جديد.ولكنه فوجئ بالمحافظ يقول باطمئنان واضح: يا فوزي أنت تعرف أن تسليح الجيش المصري روسي والفوارغ التي وجدتموها روسية كذلك.. إذن هذه الدبابات مصرية.. قال فوزي: أعتقد بأنها ليست مصرية.. وقال المحافظ: أنا متأكد أنها مصرية.. وانقطع خط الاتصال.. وقد كانت الدبابات روسية ومصرية بالفعل، فقد تبين فيما بعد أن العدو استعمل في بداية عملية الثغرة، عددا من الدبابات المصرية التي غنمها سليمة في حرب يونيو 1967، وأنها عبرت بالخداع دون مقاومة، وخدعت السكان المحليين، قبل أن تنجح في الاختباء بين الأشجار والبساتين، ثم تواصلت لعبة الخداع ذاتها، في الطريق الي السويس، وحول السويس. البحث عن المياه وعندما دخلت في صباح اليوم التالي '23/10' بعض السيارات العسكرية التي تمثل مؤخرات إدارية لبعض الوحدات. إلي منطقة المثلث في السويس، ذهبت في طريق بور توفيق. ثم اصطدمت بالبحر، وعادت مرتبكة، وكأنها تبحث عن شيء تجهله. استوقف السائقون المارة وسألوهم عن الطريق، وقال بعضهم إن الإسرائيليين قادمون علي طريق السويس، غير أن الذين سمعوا ذلك شكّوا في صدق هذا الكلام، رغم أن هذه العربات وسائقيها دخلوا إلي جوف المدينة. في مساء اليوم نفسه '23' وفي تمام الساعة السابعة مساء، حاصرت مجموعة من الدبابات الإسرائيلية شركة السويس لتصنيع البترول، كانوا قد انتهوا من احتلال ميناء الأدبية علي مسافة 15 كم جنوبالسويس، وأصبح يفصلهم عن المدينة الآن 8 كم فقط. طرقوا أبواب الشركة وسألوا عن المسئول عن المياه.. لكنه حين خرج من باب الشركة إلي الطريق الموازي لها. وجد مشهدا لم يصدقه في البداية، فقد كانت هناك، كما يعتقد ويؤكد '150' دبابة تصطف موجهة فوهات مدافعها في اتجاه الشركة، وعلي بعد أمتار منها يقف عدد قليل من العسكريين الإسرائيليين، ومقعد خشبي واحد يستقر خاليا بينهم. أمروه بالجلوس علي الكرسي الوحيد تحت ظلال مدافع الدبابات. وقال له أحدهم بالعربية: *نريد أن نؤمّن لكم الماء.. أين مصادر المياه؟ حاول أن يجيب بالانجليزية، فهناك متسع أكبر للخطأ والتعلل بعدم الوضوح، لكن أحدهم طلب منه أن يجيب بالعربية قال فوزي بسرعة: مدر المياه ليس هنا، فمحطة السويس داخل مدينة السويس.. سألوه: كم تبعد عن هنا؟ قال دون تردد: 45 كم تركوه وتناقشوا طويلا فيما بينهم، ثم عادوا إليه وطرحوا عليه السؤال نفسه، وتلقوا الإجابة نفسها، ثم عادوا إلي النقاش فيما بينهم. عادوا مرة أخري وقد نشروا أمامه خريطة دقيقة للمدينة، أخذته الدهشة، فقد كانت الشوارع الفرعية والثانوية مرسومة بدقة، وموقّع عليها أهم المعالم والأماكن.. لم تكن محطة المياه داخل السويس طبعا، كما أنها كانت علي بعد 12 كم من مقعده، ولذلك قال لهم إنه لا يعرف كيف يقرأ الخريطة.. عادوا يتناقشون ثم اتخذوا قرارهم قالوا له: - 'اركب معنا الدبابة وانزل السويس لترينا محطة المياه.. ' قال بشجاعة اليأس: إنني مدني، وأنتم عسكريون والمدنيون لا يركبون الدبابات مرت عشرون دقيقة كاملة، وهم يلحون عليه، وهو يتمسك بالكلمات نفسها، ويعيد تكرارها: أنا مدني، ، ، أطلقوا سراحه، وقالوا له عد إلي المصنع. عبر الشارع دون أن يلتفت خلفه كان يعرف أن فوهات، مدافع 150 دبابة تصطف في ظهره، وكان يعتقد مع كل خطوة يخطوها الي الامام، أن أشلاءه هي التي ستقطع المسافة الباقية.. البحث عن أسلحة علي مسافة 8 كم، أي داخل المدينة كان كل شيء علي ما هو عليه، فلا يزال الخطر بعيدا عن عيون المدينة – عدد محدود من المتطوعين في منظمة سيناء وهم من عمال وموظفي السويس، ومن أبنائها، قالوا لأنفسهم عند غروب شمس ذلك اليوم '23/10'، ربما كانت رواية المهندس 'محمد البهنسي' صحيحة بنسبة 50%، لماذا لا نعتبر ذلك احتمالا، ونتصرف علي أساسه؟! اكتشفوا فجأة، أنهم لا يملكون أسلحة تمكنهم من مواجهة الدبابات الإسرائيلية إذا كانت القصة حقيقية وجاءت هذه الدبابات الاسرائيلية، وحاولت اقتحام مدينتهم.. فكروا بسرعة، من أين يحصلون علي هذه الأسلحة، كان المستشفي العام هو أقرب الأماكن اليهم، في المستشفي ' سلاحليك' – أي غرفة لتخزين السلاح – يودع فيها الجرحي، وأحيانا الشهداء أسلحتهم.. اتخذوا قرارهم، وتقافزوا فوق الطريق الي المستشفي داخل حي الأربعين.. كانوا أربعة فدائيين ومواطن: أحمد عطيفي وابراهيم سليمان وأحمد أبو هاشم، وميمي سرحان والمواطن إبراهيم يوسف ملحوظة: عندما سألت عن إبراهيم يوسف بعد ذلك قالوا لي إنه نسيب الحاج سرحان بتاع اللبن !. دخلوا إلي المستشفي، وبحثوا عن الضابط المسئول عن مخزن السلاح قالوا له: نحن فدائيون من منظمة سيناء، وهناك احتمال أن يحاول اليهود اقتحام المدينة وليس لدينا أسلحة لمقاومة الدبابات، ولديك أسلحة نائمة في السلاحليك، أعطها لنا.. قال لهم: لا يمكن 'إنها عهدة '، ومثبتة في الدفاتر.. حاولوا بشتي الطرق أن يقنعوه رفض بإصرار، حتي كاد أحمد أبو هاشم أن يضربه، تركوه ووقفوا حائرين في صالة المستشفي، لحق بهم جندي يافع، قالوا إنه كان نحيفا، أبيض البشرة، لم يتجاوز العشرين، يتكلم بسرعة قال لهم: مفتاح مخزن الاسلحة معي، أنا مستعد لأن أسرق معكم ما تشاءون منه بشرطين: أن تكونوا ذاهبين فعلا لمقاتلة الدبابات الإسرائيلية، وأن تأخذوني معكم لكي أقاتل.. وافقوه بسرعة.. اقتحموا السلاحليك. لم يجدوا سوي آر. بي. جي – 7 واحد و 3 مقذوفات خاصة. أخذوه والطلقات، وعدد من المدافع الرشاشة والقنابل اليدوية، ومضوا ومعهم الجندي اليافع الذي يتكلم بسرعة، والذي لم يعرفوا اسمه حتي لحظة استشهاده في المقدمة صباح اليوم التالي. ذهبوا إلي منزل زميلهم الفدائي محمود عواد، جلسوا وتدارسوا الموقف، طرحوا علي أنفسهم سؤالا واحدًا: كيف سيدخل العدو الي السويس.. توقعوا أن يأتي من شارع الجيش أو من طريق الأربعين، لكن الطريق يتفرع إلي طريقين بعد ذلك، أحدهما يؤدي الي مزلقان الروضة 'الشهداء بعد ذلك' قرروا في ضوء ذلك أن يقسموا أنفسهم الي ثلاثة أكمنة، وكان الترتيب كما يلي: * الكمين الأول: يضم محمود عواد وإبراهيم سليمان وأشرف عبد الدايم وموقعه بجوار سينما رويال. * الكمين الثاني يضم أحمد عطيفي و محمد سرحان، وفايز حافظ أمين وموقعه عند مزلقان الروضة. * الكمين الثالث يضم أحمد أبو هاشم وغريب محمد غريب، وعبد المنعم حسن خالد وموقعه عند مدرسة حمدالله. وزعوا أنفسهم بهذا الشكل، وكمنوا في جوف الليل، لم تكن الساعة قد تجاوزت التاسعة مساء، حين مر بالكمين الثاني موتوسيكل، فثبتوه واكتشفوا أن صاحبه هو الرائد مصطفي قائد مرور السويس. قالوا له الحكاية، وأضافوا أنه ليس لديهم سلطات، وإلا لكان بإمكانهم جمع الجنود في قاع المدينة، لكي يكونوا حائطا بشريا قويا عند مداخل المدينة يصد هجوم العدو.. قال لهم رائد الشرطة مصطفي أنها فكرة ممتازة، لماذا لا نناقش المحافظ فيها، أبدي استعداده الكامل لمعاونتهم. اختاروا أن يذهب واحد منهم مع الرائد مصطفي لمقابلة المحافظ، وهكذا ركب أحمد عطيفي خلفه علي الموتوسيكل حتي مبني المحافظة. شرح أحمد للمحافظ الفكرة، وإمكانات تنفيذها المتاحة، لكنه فوجئ بالمحافظ يربت علي كتفيه ويقول له: اعتنوا أنتم بأنفسكم.. نحن نفعل ذلك.. طأطأ أحمد عطيفي رأسه، لم يملك الرائد مصطفي إلا أن يعيده خلفه فوق الموتوسيكل إلي كمينه عند مزلقان الروضة. بعد أقل من ساعة وصلت إلي المحافظة أول إشارة من القاهرة، كانت الساعة قد أصبحت العاشرة تماما، وكانت اشارة القاهرة الاولي للسويس تتحدث أول مرة عن دخول بعض الوحدات الاسرائيلية الي طريق القاهرةالسويس.. وفي هذا التوقيت وبهذه الكيفية تلقت السويس إنذارها الاول.. لم يتلق الفدائيون الذين كمنوا في جوف الليل عند مداخل المدينة الانذار، لكنهم انتظروا وهم يتوكئون علي أسلحتهم، فيما يشبه اليقين، اقتحام الدبابات الاسرائيلية – مر عليهم الليل كله دون جديد، وفي الفجر فوجئوا بجندي مصري يدخل المدينة عدوًا.. كان يحمل قاذف آر. بي. جي وحافظة طلقات، أوقفوه حاولوا أن يأخذوا منه القاذف والطلقات رفض بشدة، أخذوها عنوهة، وحين فتحوا الحافظة وجدوا بها طلقتي آر. بي. جي كان واضحا أن الجندي قد قذف مدرعة إسرائيلية بالطلقة الثالثة قبل أن يدخل المدينة. أحصوا ما معهم.. كان كل منهم معه تسليحه الشخصي: رشاش وعدد من القنابل اليدوية، ومعهم جميعا 2 قاذف آر. بي. جي.. مضاد للدبابات، وعدد 5 مقذوفات فقط لا غير.. وكان الصباح والمدرعات الصهيونية علي الأبواب..