عميدة المراسلين في البيت الابيض الامريكي تتمتع بامتيازين: الاول مقعد دائم في الصف الاول في قاعة المؤتمرات الصحفية في البيت الابيض سواء كان الرئيس الامريكي شخصيا هو الذي يعقد المؤتمر الصحفي او المؤتمر اليومي الذي يعقده الناطق الرسمي باسمه. الامتياز الثاني هو طرح السؤال الاول في الحالتين.. وهذا ما كانت تتمتع به »هيلين توماس«، بوصفها عميدة المراسلين قبل ارغامها علي التقاعد، وفصلها من عملها في مجموعة هيرست الصحفية. كانت هيلين عندما تلتقي بصحفيين عرب وترافقهم في اروقة البيت الابيض تكرر القول، بصوت منخفض، ان النفوذ الاسرائيلي قوي جدا هنا في واشنطن ويحول دون احراز اي تقدم لصالح تسوية القضية الفلسطينية. ولم يخطر علي بالها انها ستكون ضحية لهذا النفوذ الاسرائيلي.. ذات يوم.. وستسقط في الكمين الذي أعده لها الحاخام اليهودي »ديفيد نيزينوف« ليتنزع منها تصريحات تطالب فيها اسرائيل بالخروج من فلسطين والذهاب الي المانيا او بولندا او امريكا وترك الارض الفلسطينية لأهلها واصحابها. ويقول »جاري لوب« استاذ التاريخ بجامعة تافت الامريكية ان هيلين توماس فوجئت بتلميذ في مدرسة عليا يدعي انه يسأل »كل الناس« عما اذا كانت لديهم تعليقات عن اسرائيل. وهنا يطرح جاري لوب سؤالا: لماذا يحدث ذلك اصلا؟ وهل تلك الاسئلة جزء من بحث مدرسي؟ وهل هناك مقابلات صحفية اخري اجراها هذا الشاب وتم تصويرها علي شريط فيديو حتي يبرهن علي انه وجه هذه الاسئلة »لكل الناس« وليس فقط لهيلين توماس؟.. ويضف جاري لوب »ان هيلين عندما تصرح بعبارة: قل لهم الاسرائيليين ان يخرجوا من فسلطين، فانه من الواضح تماما انه تصريح تلقائي، ويمكن ان يعني ببساطة: »قل لهم ان ينسحبوا من الاراضي المحتلة، وهو ما يطالب به العالم كله«. ويعلق جاري لوب علي قول هيلين توماس: »تذكر ان هؤلاء الناس يخضعون للاحتلال، وان الارض ارضهم«.. فيوضح ان ما قالته هيلين صحيح مائة في المائة، فالصهاينة يحتلون الارض الفلسطينية.. وهذا الواقع يثير السخط والغضب، ومعظم سكان هذا الكوكب يعرفون ذلك. اما سؤال التلميذ: اين عليهم ان يذهبوا؟. ففي حديث مقتضب، يمكن ان تكون هيلين قد فسرت كلمة »هم« في ضوء تصريحها للتو عن الارض المحتلة، مشيرة الي المستوطنين في الضفة الغربية او مرتفعات الجولان السورية. ويقول جاري لوب ان الموضوع المطروح للمناقشة هو فلسطين، ووفقا لطريقة الصحافة الامريكية في استعمال الالفاظ، فان الارجح ان الاشارة هنا الي دولة فلسطينية في المستقبل، وليس الي دولة اسرائيل في حدود 7691، ولكن شريط الفيديو تم تحريفه وتشويهه بحيث يبدو كما لو ان هيلين تطالب كل اليهود سواء في الاراضي المحتلة او في اسرائيل ذاتها بمغادرة المنطقة والعودة لاي الاماكن التي وقعت فيها عمليات القتل الجماعي »المانيا وبولندا« والتي كان يوجد بها عدد كبير من اليهود. ويعتبر جاري لوب ان ما حدث مع هيلين تومكس لم يكن عملية نظيفة. والحقيقة ان عددا كبيرا من الاسرائيليين يتركون اسرائيل وينتقلون الي تلك الدول قبل ان تطالبهم هيلين بان يفعلوا ذلك!. حوالي 41 الف يهودي اسرائيلي يغادرون اسرائيل كل سنة خلال الفترة بين عامي 0991 و5002.. ووفقا لاستطلاع اجري في عام 7002، ظهر ان نصف الشبان الاسرائيليين بين سن 41 وسن 81 يعربون عن رغبتهم في الانتقال للاقامة خارج اسرائيل، نظرا لانهم يعتبرون ان مستقبل اسرائيل.. مظلم.. وحصلت نسبة عالية من الاسرائيليين علي جنسية اجنبية او تعتزم السعي للحصول عليها، ويعرض الاوروبيون جنسيتهم بسخاء علي احفاد مواطنين استطاعوا اثبات سلسلة انسابهم الذين عاشوا في اوربا. وقبل ان تتحدث هيلين توماس عن ذهاب الاسرائيليين الي المانيا وبولندا، كان المعبد اليهودي في برلين قد اصبح يضم 21 الف عضو كما اصبح يوجد في بولندا 55 الف يهودي معظمهم نزحوا من اسرائيل عقب حصول بولندا علي عضوية الاتحاد الاوروبي. ولكن دعونا نفترض ان هيلين توماس ارادت ان تقول ان تأسيس الدولة اليهودية في عام 8491 كان في حد ذاته امرا سيئا، وانه كان بمثابة كارثة بالنسبة لاهل البلاد: الشعب الفلسطيني. أليس هذا صحيحا؟. يري عدد من المفكرين الامريكيين ان الشعب الفلسطيني يشمل الذين ينحدرون من سلالة العبرانيين القدامي الذين اعتنق الكثيرون منهم الديانة المسيحية ثم الديانة الاسلامية ومكثوا في البلاد ولم يغادروها، خاصة انه لم يحدث تشتيت كامل أو نفي شامل لليهود من فلسطين الرومانية.. وعقب الثورات ضد الحكم الروماني بين عامي 66 و531 تم طرد عدد من اليهود من فلسطين كعقوبة بيد ان الرومان لم يشتتوا اصحاب الديانة اليهودية بالكامل. والمرجح ان الحمض النووي للعديد من الفلسطينيين اقرب الي يهود القرن الاول من اولئك اليهود الذين ينحدرون من سلالة اوروبية. وربما ارادت هيلين توماس ان تقول انه كان من الاجرام ان يعمد الصهاينة الي ترويع الفلسطينيين وارهابهم لكي يهربوا من قراهم الي الشتات في عام 8491. وربما ارادت ان تقول انه لا يصح ان تقبل اسرائيل اي يهودي من الخارج »وفقا لتعريف المؤسسة الحاخامية لكلمة يهودي« كمواطن في الدولة اليهودية بينما تنكر علي الفلسطينيين الحق في العودة الي وطنهم وبيوتهم. اذا كانت هيلين توماس قد ارادت ان تقول ذلك، فان الكثيرين يتفقون معها في الرأي. الضجيج الاعلامي في الولاياتالمتحدة الذي اعقب اذاعة تعليقات هيلين كان متوقعا، وهو يثير الاشمئزاز. ولم يحدث في السابق ان تعرض شخص في امريكا للطرد من عمله لاعتقاده ان علي الفلسطينيين التوجه الي الاردن او مصر وغيرها، رغم انهم لم يأتوا من مصر او الاردن وانما ولدوا وعاشوا دائما في فلسطين! وقد ردد صهاينة كثيرون هذا الرأي.. بل اكثر من ذلك. ففي يوم 51 يونيو عام 9691، قالت جولدا مائير، رئيسة وزراء اسرائيل السابقة، لصحيفة »صنداي تايمز« البريطانية: »لا يوجد شيء اسمه الشعب الفلسطيني، فلم يحدث اننا جئنا وطردناه واخذنا بلاده.. ذلك انه لم يكن له وجود اصلا«. ولم نسمع اي احتجاج او رد فعل في امريكا او اوروبا علي هذا التصريح.. ومازال هناك في تلك الدول من يعتقد ان الشعب الفلسطيني مجرد شيء لا وجود له الا في الخيال!. والخطأ الوحيد الذي وقعت فيه هيلين توماس هو انها حاولت الاعتذار عن تعليقاتها علي اسرائيل في مواجهة حملة ضارية ومسمومة ضدها تستهدف اغتيال شخصيتها. ومع ذلك اصدر اتحاد مراسلي البيت الابيض بيانا يشيد فيه بالصحفية المخضرمة وبعملها المهني الطويل والمتميز في الصحافة ودورها في »تحطيم اسقف زجاجية عديدة«.. كان اسكاتها هدفا يريد الكثيرون في الولاياتالمتحدة تحقيقه منذ وقت طويل، خاصة بعض الشخصيات الكريهة التي يبغضها الرأي العام الامريكي. ولكن هيلين.. ارجوك لا تتوقفي عن الكلام وعن الكتابة.