نواصل عرض مفهومنا لمؤشرات التنوير وهي المؤشرات التي تقيس مدي نجاح استراتيجيات التنوير في دولة من الدول العربية. اوضحنا خمس مؤشرات والان نكشف عن المؤشرين الاخرين: السادس والسابع - المؤشر السادس التطويع الوطني لمقاصد الشريعة، - والمؤشر السابع بناء نموذج مدني عام للحجاج. دعني اوضح. بالنسبة للمؤشر السادس فنشير بالمقصد إلي المعاني والمعلولات والاثار التي تترتب علي الاحكام الشرعية. والاحكام الشرعية تنقسم الي ثلاثة انواع من المقاصد: مقاصد كلية وجزئيه واجمالية. تستهدف المقاصد الكلية تحقيق التيسير والتخفيف وازالة الضرر الثابت، وهذا من خلال اظهار الرخص والتخفيضات والاستثناءات المقررة فقهيا في مظانها، ومنها الضرورات الخمس المشهوره في الفقة الاسلامي والمتصلة بحفظ الدين، والنفس، والعقل، والنسل أو النسب أو العرض، والمال، ويقصد بالجزئية الاحكام الفرعية التي تظهر كمفهوم للحكمة، كحكمة ترك أو وجوب او نفي. فترك الاذي يتمثل كنموذج في عدم الاجتماع بالحائض، والوجوب يتمثل في تطهير المال والنفس بالزكاة، وحكمة النفي تتمثل في تجنب الظلم المتوقع علي المتقاضين بمنع القضاء اثناء الغضب، ويقصد بالاحكام الاجمالية والمعروفة كخصائص عامة للشريعة، ومثل العموم والوسطية والاعتدال والواقعية علي نحو يساهم في الدفع الي تقرير القيم العليا والاخلاقيات العالية والحريات العامة والخاصة والعدل والمساواة والرحمة والخير والمعروف في العاجل والأجل. قال الشاطبي: »الهدف الاعلي للوجود هو قيام مصالح الخلق في الدين والدنيا معا«، ويقول الطاهر ابن عاشور الفقية التونسي المشهور ان المقصد العام من التشريع هو: »حفظ نظام الامه استدامة صالحه بصلاح مهيمن عليه وهو نوع الانسان«. اذا كانت هذه هي المفاهيم العامة لمقاصد الشريعة صارت معضلة التنوير في كل بلد عربي أو اسلامي، هو كيف يتم تطويع مقاصد الشريعة في سياق مع الثقافة الوطنية والمدنية والسياسية والانسانية العامة بحيث يتحقق تطور المجتمع والدولة بشكل مطرد ومتوازن ومتكامل؟ هنا نقترح ثلاثة مسارات للتفاعل والتطويع المجتمعي العام: المسار الاول، تضييق المقاصد بشكل يسمح لعناصر الثقافة الوطنية والمدنية والسياسية والانسانية بالبزوغ والغلبة، المسار الثاني، توسيع المقاصد بحيث تستوعب العناصر الثقافية المختلفة، المسار الثالث، التفاعل الجدلي بين المقاصد والعناصر الثقافية المختلفة بحيث يحافظ لكل منهما علي خصوصيته ومؤسساته وتقاليده. تتأرجح الدول العربية والاسلامية بين المسارات الثلاثة وفق شروط القوي الاقتصادية والاجتماعية العالمية ومدي هيمنتها الثقافية ونجاح القوي والنخب الوطنية علي احداث التلاقح يسمح بالتنوير العام. المؤشر السابع والاخير في قياس التنوير يتمثل في القدرة علي بناء نموذج مدني عام للحجاج، ويقصد بالحجاج في اللغه اللاتينية جعل شيء واضحا ولامعا وظاهرا، وفي اللغة الانجليزية الحديثة يشير الحجاج الي وجود خلاف بين طرفين، ومحاولة كل واحد منهما إقناع الاخر بوجهة نظره من خلال تقديم الاساس والعلل التي يراها حجة مدعمه أو داحضة لفكره أو رأي أو سلوك ما، وفي اللغه العربية الحجاج من حاج والحاجة تعني المحاججة بمعني المنازعة في الحجة، وفق لسان العرب. اذن اي نموذج مدني للحجاج لابد ان يتضمن بالضرورة ثلاثة مكونات: أولا، مكون الحجة، وهو بمثابة استدلال موجة لتأكيد قضية او ضحضها أو تفنيدها، وفي رانيا انه ليس كل حجة دليلا كما يعتقد البعض، ثانيا، مكون الدليل، وهو عمليه توجة التفكير العقلي بصورة يقينية ومقنعة، ويتخذ الدليل صورة الاستدلال بحيث تصير فيه النتائج منسجمة مع المقدمات التي انطلقت منها، ويحيل الدليل الي الوقائع والاحداث والوثائق ليأخذ الدليل الصورة المادية، هذا علما ان الدليل قد يكون حقيقيا، وربما يعكس حالة رمزية، ثالثا، مكون البرهنة، هي استنباط توجيه واثبات النتائج. والنموذج المدني للتنوير يتطلب ثلاثة انماط من التفاعل الثقافي في كل بلد اسلامي أو عربي: اولا، ثقافة السؤال والتي تتطلب القدرة الثقافية علي التساؤل العام، ثانيا، ثقافة البحث والتي تتطلب القدرة علي بناء اجابات محتملة بناء علي اشتراطات مختلفة بشأن الصدق المنطقي والعملي والجمالي، ثقافة بناء الحركه والتي تتطلب القدرة علي وصل الايجابات النظرية المحتملة بالقدرة علي العمل علي خلق واقع ممتد يفتح الباب الي تساؤلات جديدة. عندما اغلقت الدول العربية الاسلامية باب السؤال تدهورت القدرات علي بناء الحجج، فقصر زمن الحركة، وانهار العقل العام . والتحدي التنويري هو كيف يمكن بناء بلاغة مدنية جديدة، علما بأن البلاغه في الاصل هي مبني ومضمون وفعل؟ بعد القول بمؤشرات التنوير وتعديد استراتيجياته نتقدم الي الاجابة علي السؤال الاول من الاسئله الثلاثة والتي عند الاجابة عليها نكون معرفيا في وضع افضل للحركة العربية في اتجاه التنوير. للتذكرة السؤال تضمن ضرورة البحث في العوائق التي تعيق وتأسر الصراع الاجتماعي العام من اقامة اتصال مدني فعال بين الدولة والمجتمع. وهذا ما سنبدأ به المقال القادم مع امثله من سوريا والسعودية وتونس، ولكن دعني ألخص المؤشرات السبعة لمعضلة التنوير في العالم العربي، والتي : 1- هناك توجهات لاختلال تاريخي ، 2- عدم جدل المتناقضات، 3- اعلاء عملية التماسك الاجتماعي عن غيرها من العمليات المجتمعية، 4- تجذر السلطه كثقافة للتماسك المجتمعي وليس كآلية لحل المشاكل او تنظيم الصراعات، 5- ضعف وتدني قيمه ثقافة الاختلاف والتمايز، 6- عدم وجود ظاهر لتكيف وطني لمفهوم مقاصد الشريعة، 7- قهر اي نموذج مدني للحجاج ما عدا المدعم لتماسك السلطة الوطنية. ويستمر التحليل.