عبدالقادر شهىب لو كنا اتبعنا الطريق التونسي في اعداد دستورنا الجديد لما تفادينا كل المشاكل التي تواجهنا حاليا في اعداده، كما يعتقد ويردد البعض الآن.. وذلك لان الشكوك المتبادلة بين القوي والتيارات السياسية المختلفة لدينا في مصر كبيرة وعميقة. وهي سبب كل هذه المشاكل التي تواجهنا الآن.. وحتي الطريق الذي سلكته تونس لم يقيها من المشاكل، أو لم يحتو الصدامات والصراعات، لانها عندما انتخبت لجنة تأسيسية لاعداد الدستور اختارت في ذات الوقت. من خلال هذه اللجنة، من يتولون الحكم خلال الفترة الانتقالية، والحكم.. اي حكم- يستدعي معه في ذات الوقت معارضيه. فنحن لو انتهجنا الطريق التونسي، أي انتخبنا لجنة تأسيسية لاعداد الدستور، وتختار في الوقت نفسه من يحكمون في المرحلة الانتقالية، لحصدنا ذات النتائج التي حصدناها في الانتخابات البرلمانية، وهي النتائج التي ظفرت خلالها التيارات الدينية، »اخوان وسلفيون« بالاغلبية.. اي اننا كنا سوف نواجه بلجنة تأسيسية لاعداد دستورنا اغلبها ممن ينتمون لهذه التيارات، وايضا إدارة للمرحلة الانتقالية تهمين عليها هذه التيارات الدينية.. أي أننا كنا سنواجه وضعا لا يختلف كثيرا عن الوضع الذي نجد انفسنا فيه الآن.. حيث تخشي بقية القوي السياسية الاخري غير الدينية ان تستأثر القوي الدينية وحدها باعداد دستور علي مقاسها أو مناسب لها وحدها.. بينما لا يرعي حقوق الاخرين- أما القوي الدينية فهي تخشي أن تطوع القوي الليبرالية واليسارية نصوص الدستور لتوجهاتها الايدولوجية. فالشكوك العميقة بين القوي والتيارات السياسية المختلفة في بلادنا.. لم يتم وأدها خلال ثمانية عشر يوما احتشد فيها آلاف المتظاهرين لاسقاط نظام مبارك.. انما هي اختفت وتوارت فقط في اطار مواجهة جمعت الجميع للتخلص من هذا النظام. وعندما تنحي مبارك سرعان ما طفت علي السطح الشكوك بين القوي السياسية.. بل انها ظهرت أكثر حدة.. نظرا لان هذه القوي السياسية انخرطت في صراع. وليس مجرد تنافس لتشكيل السلطة الجديدة.. والصراعات عادة تؤدي الي الاختلاف بل والامتثال بين القوي التي تخوضها مع استخدام كل الوسائل المشروعة وغير المشروعة لحسم النتائج لصالحها.. لذلك.. فإن اصل الداء هو تلك الشكوك العميقة المشتعلة بين القوي والتيارات السياسية.. وهذه الشكوك هي التي احبطت كل محاولات التوافق علي اي شيء بين الجميع.. بل وربما داخل القوة السياسية الواحدة. باستثناء الاخوان بالطبع.. الذين هم بحكم تكوينهم التنظيمي التاريخي يمثلون تكتلا يتمتع بقدر مناسب من الانضباط بين اعضائه حتي في ظل وجود خلافات داخله احيانا. وهذه الشكوك هي ايضا التي تفسر لنا سر تبدل المواقف السياسية لمن ينتمون للنخب السياسية المختلفة. فالذين كانوا يقاتلون من أجل اقرار وثيقة.. د. علي السلمي التي تمنح نواب البرلمان 02 مقعدا في لجنة المائة التي ستعد الدستور الجديد.. تراهم الان يطالبون باستبعاد اي نائب من تشكيل هذه اللجنة استنادا الي ان الاعلان الدستوري يمنح البرلمان حق انتخاب اعضاء اللجنة.. ولا يصح ان ينتخب احد نفسه. والذين كانوا متحمسين للاسراع في اعداد الدستور الي درجة انهم روجوا لامكانية اعداد دستور في يومين أو اسبوع علي الاكثر نظرا لوجود مشروعات دساتير عديدة.. هم الذين يطالبون الان بالتريث وعدم الاستعجال في صياغة الدستور وحتي تأتي نصوصه منضبطة، لا تحتاج تعديلا بعد وقت قصير!. أما الذين كانوا يروجون بحماس ايضا للنظام البرلماني، باعتباره هو النظام الامثل لمصر سياسيا حتي تنتهي الفرعونية الرئاسية التي عانينا منها كثيرا، فهم الذين يرفضون الان النظام البرلماني، ويروجون لنظام رئاسي بعد التنقيح لتقليص صلاحيات الرئيس. كما ان الذين كانوا يلحون في الغاء مجلس الشوري باعتباره لا جدوي ولا ضرورة له، وانه مكلف للخزانه العامة التي تنوء بعجزها فانهم الان يتحدثون عن اهمية استمرار هذا المجلس بل ومنحه صلاحيات حقيقية لا تقل عن صلاحيات مجلس الشعب!. كذلك الذين كانوا يلحون ايضا لالغاء كوتة المرأة ونسبه العمال والفلاحين هم الذين يطالبون الان بالعودة الي كوتة المرأة ومعها كوتة للاقباط والشباب في الدستور لضمان تمثيل هذه الفئات في البرلمان، وهكذا.. المواقف التي اتخذتها ومازالت تتخذها القوي السياسية ليست. مواقف مبدئية، انما هي مواقف تفرضها المصالح الانية في لحظة اتخاذ هذه المواقف لذلك تتغير هذه المواقف مع تغير هذه المصالح. وبالاصح مع تقرير هذه القوي لمصالحها، في ضوء مواقع القوي الاخري التي تنافسها او تتصارع سياسيا معها، وفي ظل الشكوك المتبادلة بينها. وبالطبع لا يمكن تصور تنافس سياسي خال من الشكوك المتبادلة بين القوي والتيارات السياسية التي تخوض هذا التنافس والصراع. فالصراع يخلق مثل هذه الشكوك. ولكن مع ذلك يمكن تصور امكانية تهذيب حدة هذه الشكوك، بحيث لا تفوق التوصل الي حد ادني من التوافق علي قواعد العيش المشترك للجميع في هذا الوطن. وهي القواعد الاساسية التي يجب ان يتضمنها الدستور الجديد الذي نطمح اليه. ولن يحدث ذلك الا اذا ايقنت كل هذه القوي والتيارات السياسية ان اي قواعد للعيش المشترك لن تكون فاعلة الا اذا كانت مقبولة من الجميع.. وبالتالي لا يمكن لاي قوة من القوي السياسية ان تنفرد وحدها بصياغة هذه القواعد، والا وضعت نفسها في موضع اكراه الاخرين لقواعد ترضي عنها هي فقط، وانما يجب ان يشارك الجميع في صياغة هذه القواعد وحتي يتحقق ذلك لابد وان يقدم الجميع تنازلات لتحقيق التوافق المطلوب في مصر. فإن ثمة سببا اضافيا يلزمنا بمشاركة القوي السياسية معا في الحكم الجديد، ويتمثل في ضخامه المشاكل التي تواجهنا ويحتاج حلها مساهمة الجميع.. ولن تنجح هذه المشاركة في الحكم الا اذا نجحت المشاركة في صياغة للدستور..