نعم الباز »تمثال رخام ع الترعة وأوبرا« و»د. ثروت عكاشة نبع الثقافة المتدفق« و»في حياة كل منا ثروت عكاشة« و»ثروت عكاشة.. ثروة قومية« و»فارس الريشة والقلم«.. وعناوين كثيرة كنت أحاول أن ألخص ذلك العظيم فيها وأنا أكتب عنه.. رجل ذوب نفسه وجعل منها محاور لكل الثقافات في كل الاتجاهات ليثري بلده.. الري الدائم نبع الثقافة للإنسان المصري. مفاجأة الرحيل ألجمتني رغم العمر الذي امتد به ولم يضع فيه لحظة دون عطاء ثقافي.. كان لا يكل ولا يمل من جمع الرحيق من كل الينابيع.. من الصعب أن نحيط بما جاد به عقل هذا الرجل من فكر يصب في بناء الإنسان المصري ليحول حياته إلي كائن مثقف يمشي علي قدمين.. من الصعب أن نحصي ما احتفظ به وحافظ عليه من تراث هذا الوطن وموروثاته حريصاً علي أن تصب في البشر، بعيني قائد وإحساس رفيق سلاح قال له عبدالناصر: »إن مهمتك هي تمهيد المناخ اللازم لإعادة الوجدان المصري...« وترك من يده سلاحه كفارس من فرسان سلاح الفرسان وأمسك بتلابيب سلاح العقل الذي كونته أسرة من أب وأم حرصاً علي مزج الفن والثقافة كخط دفاع أول لصلاح الحياة وتربية أولاد نعمنا بهم. لم تكن الثقافة عنده كلمة مكتوبة أو سيمفونية يستمع إليها الناس ولا متحفاً أحسن ترتيبه ولا مسرحاً يري فيه الناس ما يغذي الروح.. ولا أثراً يرمم ليحكي تاريخ فن ثقافة للعين والعقل والقلب. لم تكن الثقافة عنده مساراً واحداً.. بل عدة مسارات تتجمع وتروي الإنسان رياً دائماً ليفيض عطاؤه في إنسان معطاء للوطن.. الحياة.. جعل من خريطة مصر مهداً لقصور وبيوت الثقافة.. لم يترك الناس يبحثون ويلهثون من أجل قطرات من الثقافات المختلفة، بل أنشأ هذا الجهاز الذي أصبح في مضمونه وشكله نهراً لعقول المصريين، لم يطلب من المواطن أن يذهب إلي ينابيع الثقافة، بل نقل إليهم الثقافات المختلفة في تلاقٍ منظم وكأنه حفر نهراً موازياً لنهر النيل يتدفق بكل ما يروي وجدان المصريين. ولكي يظل الري الدائم لكل هذه القصور والبيوت أنشأ أكاديمية الفنون التي ضمت كل المعاهد الفنية من موسيقي وباليه ومسرح ونقد فني وموسيقي عربية.. لم يغب عن عقله الواعي الإعمال بالتراث وموسيقي غربية لتواصل الوجدان المصري مع العالم. لم يغب عن عقله إرهاق الفنان في البحث عن رزقه بما يلهيه عن مناطق عبقريته فأنشأ منح التفرغ ولم يفكر في النمو الثقافي والتواصل مع العالم فقط بل فكر في الجذور.. كانت عيناه علي الآثار. وفي ليلة دخول أول شعاع للشمس بالمعجزة الفرعونية علي وجه الملك رمسيس في معبده بأبي سنبل قبل وفاته بخمسة أيام تذكرته وأمسكت التليفون لأكلمه كعادتي في هذه المناسبات ولكني ترددت حتي لا أزعجه فقد أصبح رقيقاً كزهرة عاشق نامت بين طيات كتاب. وقال لي صديق إن لثرورت عكاشة في فينيسيا حجراً ممهوراً باسمه حيث اختاره اليونسكو ليرأس علماء إعادة فينيسيا لبهائها.. في فينيسيا حجر باسمه وفي أبي سنبل درة آثارنا والتي طاف العالم من أجل جمع المال لإنقاذ الأثر العظيم من طغيان ماء السد العالي وتمت المعجزة ولكن لا يعلم آلاف الزائرين من هو العظيم الذي حافظ علي المعجزة وأوجد رزقاً لنا من تاريخ قديم.. لا إشارة باسمه. طلبتني الإعلامية اللامعة عزة مصطفي لأتحدث عنه في برنامجها »صوت البلد« في التليفزيون.. مزقني الخبر.. تصوروا رجلاً أكمل أعوامه التسعين وزاد واحداً وهدني خبر رحيله كأنما تمنيت أن يعيش بيننا العمر كله. لم يفقد يقظته إلا قبل النهاية بوقت قليل. لقد حاورته منذ عام في أول مارس 1102.. حاورته كثائر عظيم لثوار جدد.. كان يقظاً وطالب »بتعديل كامل للدستور«.. كان آخر حوار له.. ولكنه أشار للدستور!. كان عظيماً في حواره.. لم ينس ليلة الثوار ولا زملاء السلاح ولا رحلته من أجل مصر ملحقاً عسكرياً ثم وزيراً للثقافة.. لقد جعل للثقافة وزيراً وجعل الثقافة خبزاً للملايين ولم يتركها علي موائد النخبة. كان ثائراً في هدوء. قال في حواره الأخير: مصر قوية باستمرار ثورة يناير. رأيته في لقائنا الأخير منذ عام متدفق الذاكرة، لم يصله وهن العقل.. في معيته سعدت بإجابات تروي مناطق الجدب في حياتنا. ثروت عكاشة لا يلخص في مقال ولا يمكن أن أكتب عنه مرثية، فالرثاء ليس لمثله فهو باق في أكثر من سبعين كتاباً أوصلنا فيها إلي فنون العالم.. لا يمكن أن يغيب عنا ونرثيه في سرادق عزاء مثل الناس الذين يأتون إلي الدنيا ويرحلون دون أثر يتركونه. محال لمن أعطي لأمته وللبشرية كل هذا العطاء أن يرحل رحيلاً عادياً. اختلفت مع شقيقه الصديق العالم الدكتور أحمد عكاشة حول مراسم العزاء.. قلت لا يمكن أن تكون في سرادق مثل من لم يبصموا علي جدار الوطن ولم يشاركوا في بناء الإنسان المصري. هرعت إلي تلميذه وابنه الذي كان الدكتور ثروت يعتز ببنوته الثقافية الدكتور فوزي فهمي الذي شرفت أكاديمية الفنون برئاسته، هرعت إليه ووجدته مثلي يفكر في كيف يكرم د. ثروت عكاشة.. نفكر جيداً لنعطي لمن أعطانا وأعطي مصر ذوب نفسه وعقله وفكره.. أعطاها ثورة في يوليو حينما كان غضاً في الواحدة والثلاثين وتواصل عطاؤه راسماً خريطة الوطن بإضاءات من قصور وبيوت الثقافة مع إفاقة بترميم لآثار مصر وإعادة البنائين العظام. لعلي أجد أن من حقه عليّ ومن حق القراء أن نعيد نشر حواره.. آخر حوار تحدث فيه حديث الفلاسفة عن الثوار القدامي والثوار الجدد وعن مصر.. ولعلي أجد من واجبي أن أكتب لكم عنه فهو كثير ومن واجبي أن يعرفه الشباب وأن يتذكره الكبار، ليس بالبكاء عاطفياً ولكن بالإعجاب والاستفادة من كل ما ترك لنا عقلياً.. هذا الرجل لا يكرم في جنازة مهيبة أو سرادق عزاء.. إنه يجب أن يكرم بما يليق من رجل أكرم الوطن بأعز ما تكرم به الأوطان.. وهو تثبيت الوجدان وإيقاظ الوعي وإشعال وتوهج الفكر.. تري كيف أواصل بدون هذا الإنسان الذي علمني أنه في واحد يختلط الأب والأخ والأستاذ والصديق والمعلم الأكبر.. أعانني الله علي خواء الحياة بدون هذا العَلَم.