د.عمرو عبدالسمىع مجمل تصرفات وسلوكات الاستاذ الدكتور جودة عبدالخالق وزير التموين والتجارة الداخلية في حكومة الجنزوري تحتاج الي تأمل وتفكير، وتطرح قضية معايير اختيار الموظف العام وبالذات في مستويات القيادة العليا، وهي ليست معايير عملية أو خبرات ميدانية فحسب، ولكنها - كذلك - نفسية ومزاجية في المقام الأول. ولقد كتبت - لمرات - عن الدكتور جودة ونزوعاته الغريبة، وآخرها تهديداته بترك الحكومة، والالتحاق بالميدان بعد ان تحصل التيار الاسلامي اغلبية مقاعد البرلمان، مؤكدا ان ذلك التيار اذا أتي تصرفا لا يوافق ما يؤمن به الوزير من افكار وتوجهات فسوف ينزل الي ميدان التحرير منددا ومتظاهرا ومعتصما، ضاربا عرض الحائط بفكرة الديمقراطية علي اطلاقها، ومستهينا بالثقل والارجحية التصويتيين اللذين تحصلهما التيار الاسلامي.
ثم توقفت عن انتقاد ذلك الوزير حتي لا يتصور انني اتقصده وأترصده، ومتأملا ان تكون تصرفاته غير المقبولة وليدة ضغوط او انفعالات، أو عدم خبرة، أو قلة تحكم فيما يقول ويفعل. وضمن ما تناولت في سلوكات الوزير جودة، اشرت الي انه جزء من كيان اسمه »الحكومة« ومن ثم فان تلك الفردية التي يتصرف بها تبدو غير منطقية في اطار مسئوليته السياسية التضامنية مع اعضاء مجلس الوزراء،.. وأومأت إلي الروح الاستعراضية التي تلبست الوزير جودة، ودفعته الي التصريحات المتواصلة لوسائط الاعلام سواء في احدي القنوات الاخبارية، أو برامج التوك شو السياسية، أو نايل سينما، أو قناة الاسرة والطفل.. أي حاجة .. المهم ان يستمر الرجل في الثرثرة ويتفرج علي نفسه في التليفزيون، داعيا اصدقاءه، وجيرانه، وخلانه الي مشاركته الفرجة، والاستمتاع بادائه التليفزيوني. ولاحظت ان جودة انكمش اعلاميا بعض الشيء بعدما قمت بممارسة واجبي المهني والوطني في انتقاده ولفته الي ضرورة الاحتشام الوظيفي عبر عدة مقالات في الصحف السيارة. ثم لاحظت - في الشهر الاخير - انه عاد متسللا الي شاشات التليفزيون يطل برأسه مثرثرا في هدوء، ثم تصاعدت وتيرة الثرثرة حتي انفتح المجال علي الآخر امامه ليمارس استعراضيته في اكثر صورها نشاطا. وبدا لي ان تلك العودة الاعلامية هي مقدمة لعمل كبير يريد جودة ان يقدم عليه فيصبح محل الانظار، وتحتل سيرته مكانها علي كل الالسنة، فترتوي نفسه العطشي الي اثارة الانتباه، والتسيد - بالذات - علي اولئك الذين اختارهم الشعب في الانتخابات، والذين - فيما يبدو - يسببون حساسية خاصة للرجل فيعمد الي الاستعلاء عليهم، ويجنح الي محاولة اهانتهم بأي طريق يستطيع لانهم يمثلون اتجاها يناصبه جودة العداء. وفي يوم الأحد الماضي اقدم جودة عبدالخالق علي فعلة خطيرة تؤكد كل المعاني السابقة، وتصادق علي ان احترازاتي وتوجساتي ازاءه كانت في محلها بالضبط، وان مناداتي بضرورة اقرار منظومة معايير معينة تشمل كل مفردات حالة المرشح لمنصب عام قبل ان يتبوأ مقعده، هي من اول الاولويات التي ينبغي اقرارها.. اذ اشتبك جودة مع النواب المحترمين في مجلس الشعب الموقر حين مناقشته لموضوع البطالة في البرلمان، بمجرد ان ادلي احدهم برأي لم يعجب جودة الامر الذي دفعه الي المطالبة بحذف ذلك الرأي من المضبطة وكأنه الذي يقرر، ثم شخط فيهم لكي »يقعدوا« وواصل في استعلاء شديد نهر النواب وبهدلتهم، الامر الذي دفعهم الي المطالبة بطرده، وتذكيره بأنهم منتخبون، وانه معين، وهو ما دفع الدكتور محمد سعد الكتاتني رئيس مجلس الشعب الي التدخل مذكرا جودة - في البداية - بأن النواب يخاطبون المنصة، ولا يجوز للوزير ان يرد عليهم، ثم مطالبا الوزير - ثانيا - بالنزول من علي المنصة والجلوس علي مقاعد الحكومة. والحقيقة ان الدكتور سعد الكتاتني قدم لنا - منذ بداية انعقاد مجلس الشعب الجديد - شكلا متوازنا وعادلا لاداء رئيس تلك المؤسسة التشريعية الرفيعة، علي نحو حلق فيه الرجل متحررا من انتمائه الحزبي والزمري، وبشكل عاقل ومسئول استطاع ان يعبر فوق قلة خبرة بعض الاعضاء الذين لم يحفظوا اللوائح ويتعرفوا علي الاصول البرلمانية بعد، ونجح تصرف الكتاتني ازاء جودة في استيعاب موجة الغضب الكبري التي اعترت النواب، وأفلح - بحكمته وكياسته - في انقاذ جودة من نفسه ومن تورطاته التي لا تنتهي. نظرة واحدة الي الرجلين في ذلك الموقف تقول لنا اننا بإزاء رجل مسئول هو الدكتور الكتاتني الذي حافظ علي المجلس وكبرياء النواب وكرامة الوزير.. ورجل غير مسئول هو الدكتور جودة الذي اهدر هيبة الحكومة ومقام الوزير بتصرفات ينبغي ان تكون محل محاسبة في مجلس الوزراء. ثم انني ما زلت متوقفا عند حكاية استعلاء جودة علي النواب. ما هو - في نظر الوزير جودة - مبرر ذلك الاستعلاء؟! أوليس جودة ابنا لحزب التجمع التقدمي اليساري، الذي - في خطابه العلني - ينادي بالمساواة بين الجميع؟ ثم أوليس جودة من كبار الذين نادوا بالديمقراطية هدفا لثورة يناير المصرية، فهل كان يقصد ان تكون ديمقراطية فصيل سياسي واحد ينتمي هو اليه، فاذا أنصفت تلك الديمقراطية فصيلا اخر كان حقيقا برفض رفعة الباشا الوزير، واحتقاره واستعلائه. نحن نحتاج الي تعليم وتدريب الكوادر قبل اسناد المناصب العامة اليهم، ورفعة جودة باشا محتاج لان يتأسي ويتعلم من اداء الدكتور الكتاتني الذي حظي باحترام وتوقير من المجتمع السياسي المصري كله. ولن اكتب - مجددا - عن جودة عبدالخالق، فالكرة - الآن - في ملعب الاستاذ الدكتور كمال الجنزوري.