كان الاتصال الأول من خالد يوسف من باريس. وكنا قد شاركنا في برنامج في البي بي سي. حول الأخطار التي تهدد الحريات. تحدثت من القاهرة وخالد تحدث من باريس واتفقنا علي لقاء في القاهرة بعد عودته. شرح لي فكرته بتشكيل جبهة للمبدعين المصريين تدافع عن الحريات. حضرت اللقاء الثاني بعد اتصال من فتحية العسال. ثم اللقاء الثالث. ذهبت للعمارة العالية المدون عليها: اتحاد الصناعات المصرية. مجاورة لهيئة الكتاب ومطلة علي النيل. في أعلاها غرفة صناعة السينما. تدخل من الباب تطالعك صور وجوه صناع البهجة التي مكنت مصر من قيادة الوطن العربي والأمة الإسلامية والعالم الثالث بكلمة واحدة: السينما. تتذكر وعيون الصور المعلقة علي الجدران تحدق فيك نداءات غربان الظلام في الشارع بتحريم الفن الجميل وحرمان الدنيا من إبداع أهل مصر فتتساءل: هل تطوي صفحة الفن البديع وتطارد قاعات السينما التي تعرض أجمل ما أبدعت البشرية؟. السينما وحدها ليست المهددة. المسرح أبو الفنون. والفن التشكيلي. والغناء. والموسيقي. والطرب الأصيل. والرقص الشرقي الجميل. وكل هذه الفنون التي اعتبرها ابن خلدون في مقدمته شرطاً أساسياً لقيام الحضارة. وجوه حية أطلت عليَّ من قاعة الاجتماعات: الدكتور محمد العدل، عادل حمودة، فتحية العسال، أحمد طه النقر، جمال بخيت، عبد الجليل الشرنوبي، إبن قرية شرنوب. بلدياتي البحراوي الذي يعد التعرف عليه اكتشافاً، داوود عبد السيد، محمد عبلة، كان مشغولاً برسم بورتريهات للحاضرين أثناء كلامه. ومع هذا شارك في النقاش بجدية، وصمم في أقل من دقيقة شعار الجبهة: مصر مصرية. خالد يوسف، جابي خوري. والموضوع الذي لا بد من الكلام فيه ونحن في انتظار اجتهاد كتبه حسام عيسي سيرسله من البيت عن طريق الفاكس. الموضوع هو: هجوم الظلام علي كل ما يضئ جنبات الوادي منذ فجر التاريخ. حيث اخترعت مصر الضمير الإنساني وحتي لحظتنا الراهنة. ما كان أحد يتصور أن ثورة مثل الخامس والعشرين من يناير يمكن أن تتركنا علي هذا الشاطئ حيث لا نسمع سوي كلمات التحريم وعبارات النذير وجمل التخويف ومحاولات أن تستقيل مصر من مصر. وأن تهرب من تاريخها. وأن تخاف من مستقبلها. وأن تتخلي عن دورها. الأفكار المتطايرة كثيرة. مؤتمر صحفي عالمي يُعقد في نقابة الصحفيين. الثانية من ظهر السبت. يعرض فيه لأول مرة فيلم أخرجه يوسف شاهين. يتحدث عن الخطر الذي يهدد العقل المصري. يلقي فيه البيان الأول لتأسيس جبهة المبدعين المصريين. ثم التوصيات. ثم وهذا هو الجديد قسم المبدع المصري. كتب عادل حمودة مشروعاً. وكتب جمال بخيت مشروعاً. وكتب عبد الجليل الشرنوبي مشروعاً. وكتب محمد عبلة مشروعاً. واستقر الرأي علي صياغة جمال بخيت. اللقاء الثالث كان في مكتب عادل حمودة بجريدة الفجر. لكي يوفر عليَّ الوصف - أنا القروي الذي ما زلت أوشك أن أتوه في دروب المدينة - قال لي عندما تصل إلي الميدان المواجه لفندق شيراتون بدلاً من أن تتجه شمالاً إلي مكتب الأستاذ هيكل كما تعودت أن تفعل. اتجه يميناً العمارة رقم 8 بشارع السد العالي. حيث جريدة الفجر. يتساءل أحدنا: لماذا لا يقوم أهل الفن والفكر والأدب عشاق الخيال الإنساني بمسيرة سلمية تبدأ من الأوبرا وتنتهي عند مجلس الشعب يوم 23 يناير القادم؟ حيث تعقد الجلسة الأولي. يكون شعار المسيرة شديدة البساطة: مصر مصرية. ويتقدمها نجوم مصر: ليلي علوي، يسرا، نور الشريف، محمود عبد العزيز. ولو وافقت سيدة الفن المصري والعربي فاتن حمامة أن تتقدمهم جميعاً لمشي الجميع وراءها وهم يشعرون بامتنان لحضورها. التحرك لا يندرج تحت رد الفعل. ولكنه فعل يستبق الأمور. المبدعون المصريون لم ينتظروا حتي يكونوا في موقع التهديد. ولكنهم قرروا أن يأخذوا زمام المبادرة. وفي مشروع التوصيات التي ستعقب تلاوة البيان التأسيسي رؤية لمستقبل مصر لا تتوقف عند الحريات التي أصبحت مهددة. ولا العمل الثقافي والفني والإعلامي. لكنها تصل لتصور شامل للدستور وللجنة التي ستضعه. ولا بد أن تكون ممثلة للأمة المصرية وليست معبرة فقط عن الأغلبية. فالأغلبية أمر عارض. في حين أن الدستور باق إلي الأبد. ولأننا لا نعتبر المثقف منعزلاً في برج عاجي. لذلك فإن التوصيات تحدثت عن العدل الاجتماعي الغائب. عن التمييز الموجود في مصر. سواء التمييز علي أساس ديني أو عرقي أو جغرافي أو طبقي. وتطالب بوقفة حقيقية ضده. أيضاً الإفراج عن كل المحكوم عليهم من المحاكم العسكرية. ووقف أي محاكمات بسبب الرأي مستقبلاً. أيضاً لم يشغل المبدعون المصريون في جبهاتهم زخم الحاضر ولا تحدياته ولا مخاوفه من أن تعتبر أن الحرص علي تراث مصر المادي والمعنوي هو الواجب الأول للدولة المصرية الآن. لا يقل لي أحد أن شعار مصر مصرية هو تحصيل حاصل. ولكن مهم أن نتمسك الآن بمصرية مصر. ومصرية مصر ليست ضد إسلامها ومسيحيتها وعروبتها كونها جزءاً من إفريقيا. ولا بوابة لآسيا. ولا قلب الدنيا. ولا صانعة حضارة. لكن علينا أن نتمسك بمصرنا الآن دون أن تنجرف لأن تصبح أي شئ آخر سوي مصريتها التي لا تعني الشيفونية. ولكن التمسك بالثوابت في مواجهة كل المتغيرات.