يلومني الكثيرون لابتعادي عن الكتابة الذاتية ولانغماسي في السياسة.. وكأن هموم الوطن يمكن فصلها عن ذواتنا.. فالوطن يسكننا شئنا أم أبينا، فما بالك وقد عشنا عاما تاريخيا بانتصاراته وانكساراته التي لاتنسي. عام سقوط رأس الأفعي وبقاء جسدها حيا يسعي ليمنع اكتمال أحلام مشروعة للشعب الذي دفع ثمن ثورته غاليا من دم أبنائه المخلصين. أعود بذاكرتي لعام عصيب علي المستوي الشخصي والعام عشت معظمه في عزلة حبيسة جدران بيتي لا أغادره إلا محمولة علي كرسي متحرك إلي المستشفي ذهابا وإيابا.. أنظر للشوارع في لهفة.. أشتاق لضجيج السيارات ورائحة العادم ووجوه الناس مبتسمة أو مكفهرة، أكاد أصافح الغرباء وكأنهم أهل افتقدتهم طويلا! رب ثوان تغير حياة المرء فجأة، فقبل أربعة أيام من تاريخ اليوم من العام الماضي كسر كاحل قدمي اليسري.. كيف؟ قليل من الماء علي أرض ملساء وذهن مشغول والأهم قضاء الله الذي كان لطيفا بي في اختباره.. وفي مثل هذا اليوم أجريت لي الجراحة الأولي لتثبيت مسمارين وشريحة معدنية.. غريب أن تشعر بأجسام معدنية داخل قدمك! أسابيع ثم شهور من الرقاد ثم الحركة قفزا علي الساق السليمة باستخدام أداة طبية وتقدم بطيء.. وثورة يناير المجيدة تنتفض وتنتصر وتتعاقب المحن وأتابعها لاهثة عبر الشاشات فلولاها ما عشنا أكثر أيامنا مجدا لحظة بلحظة.. وأنضم مرغمة لحزب الكنبة ومثلي كثيرون. فقدت ثقتي بالأرض مهما كانت ثابتة مستوية خاصة لو كانت ملساء، أصبح خوفي مرضيا (فوبيا). أحيانا أتأملها في عتاب وأوشك أن أسألها: لم غدرت بي وقد استأمنتك؟ يشرد ذهني أمام التلفاز حين أري الناس يقفون ويسيرون ويجرون ويقفزون أيضا وأتنهد: كنت مثلهم ولم أشعر بقيمة ما لدي.. فلا يعرف قيمة النعمة إلا من يفقدها أو يوشك علي فقدها. كلنا نتمتع بنعم لا تعد ولا تحصي ولا نؤدي لله عز وجل ما يستحق من شكر وعرفان. أذكر فرحتي في اليوم الذي وقفت فيه للمرة الأولي.. وخطواتي المهتزة وكأني طفل يتعلم المشي تهمس أمه (سَد يا بير) لتبعد الخوف عن قلبه.. لكن البئر أمامي تأبي أن تُسد! وكلما زارني أحد إخوتي أفاجئه بوقوفي ثم بخطواتي ليسعد لي وكأني حققت معجزة! في مايو كنت أسير ببطء بمساعدة العصا رفيقتي الجديدة - التي اخترتها بعناية - وبدأت أرتبط بها عاطفيا مثل ارتباطي بقلمي ووسادتي ومقعدي المفضل.. فما بالك بتلك التي تعينني علي الحركة! عدت لعملي وقد تصورت أني تحسنت لدرجة تسمح لي بصعود درج طابق واحد.. وكانت غلطتي التي أدت لكسر جديد في نفس المكان! لأعود لنقطة الصفر وأخضع للجراحة الثانية.. كنت أعلم المراحل التي سأواجهها بعكس المرة الأولي فسلمت أمري للّه تعالي، وعشت شهورا أخري من الرقاد ثم القفز علي الساق السليمة ثم الجلوس علي كرسي متحرك.. ازداد خوفي من الأرض وحرصي في الحركة. أتوكأ علي عصاي وأسير كسلحفاة.. لا يهم ما دمت أسير، يعاودني الألم لو وقفت لعشر دقائق أو سرت لعدة أمتار فأقاوم ألمي وأصمد.. تجرحني نظرات الشفقة ربما تخففها كلمات المودة والاهتمام الصادق.. أحمدك يارب علي لطفك في قضائك وقدرك.. عام عصيب أحاطتني فيه عائلتي بالحب.. أثقلت عليهم دون قصد لكن المحنة قربتنا. وعام عصيب علي مصر ولا يعلم الا الله كيف سيكون عيد الثورة شموع واحتفالات أم دماء وشهداء جدد؟ يختلط الأمل الخاص والعام.. غالبا سأظل معتمدة علي عصاي إلي أن يأذن الله بشفائي.. لكن الثورة لن تنكسر وستسير بالتأكيد.