في عصر الإنترنت و»الفيس بوك« و»تويتر« و»يوتيوب«.. أصبح دور المؤسسات الإعلامية يحتاج الي نظرة جديدة وتطوير هائل لكي يواكب المجتمعات المدنية الحديثة وحركة الأجيال، خاصة بعد أن اصبح الإعلام لاعبا أساسيا في التحولات الكبري التي تهز العالم العربي والدنيا كلها.. يوميا. فقد تطور مفهوم الإعلام -كمنتج ثقافي بالمعني الواسع، وكمنتج حضاري وسياسي وفكري - ليؤسس لزمن جديد. وأصبح الإعلام هو المشارك في قلب المعارك، وفي متناول الجميع كبارا وصغارا.. ولم تعد الاتصالات مملوكة للاجهزة الحاكمة بل صارت في أيدي الناس. لقد حدث انقلاب هام في الآونة الأخيرة يتمثل في ان المعلومات ينتجها العرب للعرب. وكل مواطن يشاطر في تقديم المعلومات، حتي انه لم يعد هناك فارق كبير بين المتظاهرين في الشارع وبين الإعلامي، فالمواطن هو الذي يصنع الإعلام، كما أن علاقات الدولة محكومة بمدي نجاح هذا الإعلام وتأثيره علي اتجاهات المجتمع الدولي، ولم يعد الإعلام.. إعلاميا محليا بل صار جزءا من التأثير الشعبي علي الدول والانظمة البعيدة. لكل هذه الأسباب، تزداد أهمية وقيمة الدراسة التي وضعها الباحث الإعلامي ياسر عبدالعزيز بعنوان »إعادة هيكلة المؤسسات الاعلامية«.. ويعتبر هذا الباحث الجاد ان القضية الملحة الآن هي تحرير المنظومة الاعلامية الرسمية المصرية من الارتهان لسلطة أي حكومة، وفتح الباب أمام انطلاقها وتطورها، وتكريس حرية التعبير، وحماية الإطار الديمقراطي المنشود، والقيام بدور كبير في قيادة عملية التحول، وتحقيق التقدم والوفاء بالمعايير المهنية، ومواكبة التغيرات الكبري التي طرأت علي الفضاء الإعلامي الاقليمي والدولي، وإعادة هيكلة هذه المؤسسات الإعلامية علي نحو يوقف إهدار الموارد ويضمن رفع مستوي الأداء والجودة. في عام 0691، صدر ما يسمي بقانون تنظيم الصحافة الذي أدي الي وضع يد الحزب الحاكم علي جميع الصحف القائمة لكي يصبح »مالكها« هو »الاتحاد القومي« - التنظيم السياسي الوحيد والحاكم - ثم خليفته »الاتحاد الاشتراكي العريش. وهكذا امتلك التنظيم السياسي الوحيد والحكام مؤسسات الأهرام وأخبار اليوم ودار الهلال وروزاليوسف ودار المعارف. كما تولي النظام الحاكم انشاء مؤسسات أخري، مثل وكالة أنباء الشرق الأوسط ومؤسسة دار التحرير ودار التعاون والشركة القومية للتوزيع ومؤسسة دار الشعب. وبلغ عدد المؤسسات الصحفية التي تخضع للسيطرة المطقة للحزب الحاكم عشر مؤسسات. وفي عام 0891، انتقلت هذه الملكية الي »مجلس الشوري«، حيث كانت »اللجنة العامة« لذلك المجلس تجتمع لكي تفتح مظروفا مغلقا مرسلا اليها من رئاسة الجمهورية يحتوي علي قرارات بتعيين.. رئيس لمجلس ادارة هذه المؤسسة الصحفية أو تلك أو تعيين.. رئيس لتحرير هذه الصحيفة أو تلك. وفي مايو عام 0002، تم دمج مؤسستي دار التعاون ودار الشعب في اربع مؤسسات صحفية هي الاهرام وأخبار اليوم ودار التحرير والشركة القومية للتوزيع ليصبح عدد المؤسسات الصحفية الحكومية التي يطلق عليها وصف »قومية« ثماني مؤسسات يصدر عنها 55 صحيفة.. والحقيقة أن تلك الصحف لم تكن »قومية«، وإنما كانت حزبية، أي ناطقة باسم الحزب الحاكم.. رغم انها يمكن ان تفتح صفحاتها لبعض أصحاب الأقلام من خارج دائرة الحزب. أما الاذاعة، فإنها تابعة لاتحاد الاذاعة والتليفزيون بوزارة الاعلام، وتضم تسع شبكات اذاعية.. كلها تابعة للحكومة. ومنذ ان بدأ التليفزيون المصري البث في 32 يوليو 0691، وهو يتبع اتحاد الاذاعة والتليفزيون، أي الحكومة، ويضم إحدي وعشرين قناة. المشكلة التي يطرحها الباحث ياسر عبدالعزيز هي ان المؤسسات الإعلامية تابعة للحكومات في مصر، وليست تابعة للدولة بوصفها تعبيرا عن المجموع العام. بل ان هذه المؤسسات تتبع -في بعض الأحيان- جناحا ضيقا في الحزب الحاكم يمثل مجموعة مصالح محددة، مثل تلك المجموعة التي كانت تروج لتوريث الحكم لنجل رئيس الجمهورية السابق. وتفرض الموضوعية علي الباحث الاعتراف بان المصريين فقدوا الثقة في منظومة الإعلام الرسمية، خاصة بعد انتقالها، المثير للدهشة والجدل، من أقصي درجات الولاء المطلق للنظام السابق الي اقصي درجات التشهير به والطعن فيه. ويقرر الباحث ان حجم المظالم والمفاسد والهدر الذي تقوم عليه ادارة هذه المؤسسات قد انكشف بعد ثورة 52 يناير، فقد ظهر ان المنظومة الإعلامية مثقلة بديون تبلغ نحو 32 مليار جنيه مصري ويعمل بها نحو 47 الف إعلامي وعامل واداري، كما انها تحتوي علي استثمارات مجتمعية ومالية كبيرة. ولا توجد قاعدة لمساءلة المسئولين عن هذه المؤسسات. المهم -فيما يري الباحث- ان الفلسفة التي قامت عليها فكرة تملك المجموعة الحاكمة لوسائل الاعلام.. قد سقطت. الاستراتيجية التي يجب اتباعها لإعادة هيكلة منظومة الاعلام تعتمد علي تحويل وسائل الإعلام الي هيئات خدمة عامة مستقلة عبر تعزيز كفاءتها المهنية والادارية والالية وتشغيلها في خدمة المجموع العام دون التفكير في تفكيكها أو طرحها للخصخصة. ولكي يتسني إعادة صياغة الإطار القانوني والمهني الذي تعمل فيه هذه الوسائل الاعلامية، يقترح ياسر عبدالعزيز انشاء »المجلس الوطني للإعلام« كجهة قابضة، يمثل المجموع العام في ادارة وسائل الإعلام العامة، علي ان يتم اختيار قيادات المجلس علي نحو يعكس توازن السلطات في البلاد ويمنحه الاستقلالية الكاملة لممارسة أدوار الملكية والتقويم والاشراف والمراقبة علي أداء تلك الوسائل بما يحقق الهدف من وجودها. ويمثل هذا »المجلس الوطني للإعلام« الدولة المصرية في ادارة وسائل الاعلام وتأمين تمويلها واستدامة خدماتها وتطويرها، ويتكون المجلس من 21 عضوا : ثلاثة يعينهم رئيس الدولة، وثلاثة يعينهم رئيس مجلس الشعب، وثلاثة يختارهم المجتمع المدني، وثلاثة من المؤسسات الدينية الرسمية. ويعين رئيس الدولة.. رئيس المجلس بالتشاور مع الحكومة. ومدة المجلس ست سنوات. وتشمل خطة اعادة هيكلة المؤسسات الاعلامية تعزيز آليات المسئولية والمحاسبة، وخضوع »المجلس الوطني للاعلام« لمساءلة البرلمان، واطلاق حرية مديري تلك الوسائل بما يساعدهم علي تحقيق الاهداف الاستراتيجية، ويتم الاستغناء عن خدمات جميع القيادات المسئولة في درجات المسئولية العليا وطرح وظائفهم للمناقشة في المجال العام وفق سياسات توظيف معلنة، وتشكيل لجان متخصصة لفحص الاوضاع المالية والتشغيلية ورصد حالات الفساد وتحويل الخدمات الصحفية والتليفزيونية والاذاعية وخدمات الانترنت الي الخدمة العامة بحيث تؤدي خدماتها للمجموع العام، ولا ترتهن في الادارة أو التشغيل الي الحكومة، وتحويل الصحف القومية الي هيئات مستقلة عن أي حكومة وتحت إشراف المجلس الوطني للاعلام المقترح انشاؤه، ويعين هذا المجلس، بدوره، مجلس مديرين لكل مؤسسة صحفية قومية من 21 عضوا، نصفهم يتم انتخابه من الجمعية العمومية التي تمثل العاملين في المؤسسة. ويعين مجلس المديرين. مديرا مسئولا، أو رئيس مجلس ادارة محترف بعد تصديق المجلس الوطني للاعلام علي تعيينه. ويتولي المدير المسئول تعيين رئيس التحرير. وتظل الصحف القومية مملوكة للدولة. وتصبح »هيئة الاذاعة والتليفزيون«.. هيئة مستقلة مسئولة امام المجلس الوطني للاعلام. دراسة الباحث ياسر عبدالعزيز تستهدف ضمان عدم عودة سيطرة أي حكومة علي وسائل الاعلام المصرية. وقد يختلف القاريء مع بعض تفاصيل مشروعه، ولكن.. يبقي الهدف الذي طرحه هو الأكثر أهمية. كلمة السر: الاعلام المستقل ضمان الديمقراطية الحقة.