نموذجان من وزراء الداخلية، علي اللواء محمد إبراهيم وزير الداخلية الجديد، اختيار أحدهما ليبقي اسمه طويلاً، وتترحم الناس علي أيامه، الأول المرحوم اللواء حسن أبو باشا، الذي استطاع أن يغزل لأمن الدولة ثيابًا من خيوط الدنتلا، وأن يقيم علاقات فكرية متينة برباط محكم من المصداقية مع المفكرين والأدباء وأصحاب الرأي من الكتاب والصحفيين، فاحترمه الإسلاميون والشيوعيون، رغم وجودهم في سجون الداخلية، ليس كحيوانات تجهز للذبح في سلخانات، ولكن في سجون تجري بها حوارات حول المستقبل. فإذا كان قدر هؤلاء سياسيًا الزج بهم في السجون، كان حسن باشا، أقصد أبو باشا، يقول ألا أكون سجانًا عطوفًا. أبو باشا كان يملك مشروعًا فكريًا ومنظومة أمنية تقوم علي الحوار لا علي الرصاص، يراهن علي الصداقة يبغض العداوة، لم يكره مسجونًا سياسياً قط، بل ارتكز علي تنمية العلاقات بينه وبين التيارات السياسية، حتي " المحظورة " منها كان يقربهم ويجلس إلي قادتهم ويحسن وفادتهم، وظل بعد الخروج من الخدمة في أوائل عصر مبارك يجالس المفكرين والمثقفين ويحاورهم ويجادلهم بالتي هي أحسن. ورغم محاولة الاغتيال التي أقعدته رصاصاتها عن الحركة وصار محصورًا بين جدران شقته تقيم علي خدمته صبية (شغالة) رباها منذ الصغر، إلا أنه لم يفقد قدرته الهائلة علي التحليل، وعاش قدر ماعاش يؤكد أن الإخوان سيركبون تلك البلد، وظل يحذر من هذا اليوم، ويؤكد كل لحظة أن نظام مبارك يقربهم من سدة الحكم بسياساته الخاطئة، ومعالجاته الأمنية التي تفتقر إلي الحنكة والقدرة علي اختراق تلك التنظيمات، والاقتراب من أفكارها والتعاطي السياسي والفكري معها. كان يؤكد بل يقطع بوصول الإخوان إلي الحكم حتي أن أحد أقرانه من كبار الصحفيين كان دومًا يزعجه نبوءات أبو باشا ويردد غير عابئ ولا فاهم، فوبيا الإخوان استولت علي دماغ أبو باشا، كان أبو باشا يري جيداً أن السياسات الأمنية المستفزة ستأتي حتمًا بالإخوان، هم ضحايا والقلوب تلتف حول الضحايا وإن ظلموا. خلاصة أبوباشا أن الأمن سياسة، وأن الرصاصة تأتي دومًا بعد الكلمة، وانتزاع الكلمة بالحوار لا بالتعذيب، كان وزيرًا للداخلية من طراز رفيع، أيديه تتلف في حرير ، ليست غارقة بالدماء ولا يمشي علي أشلاء، وينام ملء الجفون، لا تؤرقه عذابات من في السجون ولا تقطع عليه غفوته صرخات المظلومين، قضي أيامه الأخيرة مع المفكرين ليس مع المساجين. الثاني أمد الله في عمره جزاء وفاقًا علي ما قدمه للإنسان كونه إنساناً يطلب الأمن والأمان، وأقصد الوزير طيب الذكر اللواء أحمد رشدي، الذي علي سنوات عمره وتقدمه في السن وجد من يرشحه وزيرًا للداخلية علي المقاهي وفي الباصات وأنفاق المترو ، باعتبار أن أفضل سنوات الداخلية كانت سنوات الوزير رشدي، وتسمع بعد هذا الترشيح المستحيل والمخالف لناموس الطبيعة في تلك الوزارة العصية، تسمع عجباً، من يقول قابلته ذات مرة تحت كوبري غمرة، وسلم عليّ وقالي خلي بالك وأنت بتعدي الطريق، ويهب آخر واقفاً، لا أنسي وقفته بالبالطو الأسود أمام حديقة الأورمان بعد نص الليل، ولما عرف أنني راجع من الشغل مشيا أمر البوكس يوصلني حتي باب البيت، ويتداعي الحديث،رشدي كان بينظم المرور بنفسه، وبيضحك مع المارة، وبيمر علي الدوريات، ومصاحب الضباط، كان عارفهم بالاسم. رشدي هو الوزير الأسطورة في وزارة الداخلية، هو الوزير العياري، مثل رشدي أو ليس مثله، رشدي من مدرسة تحترف مايسمي السلوك الأمني القويم ، الأدب والاحترام، والرقي في المعاملة، والتمتع بالعمل، والتعاطف مع الشارع، والبحث عن بدائل شعبوية للمشاكل الأمنية، رشدي من مدرسة تأخذ الرأي العام في صفه، الشارع له لا عليه، يحتكم للشارع ولا يغادر الشارع، ضباطه في الشارع مرونة ولياقة وقدرة علي التحريك والتحرك بلا إيذاء، في عهد رشدي كانت الحملات الأمنية مكثفة طوال الوقت وليل نهار، كان الناس يحسون أن رشدي في كل مكان، كل ضابط وفرد كان رشدي، لدرجة أن البعض كان يروي قصصاً عن رشدي تجعله يظهر في مكانين بينهما أميال في وقت واحد، كلاهما يقسم لسه شايف الوزير دلوقتي حالا، والأول جاي من العباسية والثاني جاي من العمرانية، كلاهما صادق فالحالة التي أشاعها الوزير في البلد أهلتها لحالة تحلف برأس وزير الداخلية رغم أن وزراء الداخلية عادة ما ينتهون بدق الرءوس. رشدي كان من مدرسة تفهم في الشارع جيدًا وتمسك بمفاتيحه، وتعرف جيدًا قراءة شفرته، الشارع يحتاج تطبيقًا عمليًا لشعار الشرطة في خدمة الشعب، من عبور الطريق إلي القبض علي النشال، إلي الوصول إلي البيت قبل المغرب في رمضان، الشارع يريد شرطة قوية، ترتدي بأناقة، تلتحم بلباقة، كبرياء يوحي بالثقة، وليس بالغطرسة، تنظر لأعلي إلي تمثال نهضة مصر ليست منكسة الرءوس، شرطة تقبض ما يكفيها لا تمد يدها لأحد ولا تمد يدها إلي حرام، لاتسلب الناس أقواتهم، وتقاسمهم أرزاقهم، شرطة تمنع الميكروباص من قطع الطريق، ليست شرطة صاحبة ميكروباص، شرطة لا تكذب ولا تتجمل، شرطة تعرف ما لها وما عليها، شرطة شابة قوية قادرة، فاهمة لدورها واعية، لاتسمع بشأنها لاغية. رشدي أمن الشارع أشاع الاطمئنان، أبو باشا أمن السياسيين أشاع الحوار، هل يجمع إبراهيم الحسنيين وزيادة، يفتح الشارع ويفتح حوارًا، يجري الحوارات ويستمر في الجولات، يسمع كثيرًا وينفذ كثيرًا، لا ينشغل بالحوارات والدفاعات والفضائيات، يلتقي بالنخب السياسية تبصرًا بالحالة السياسية الصاخبة وكيفية التعاطي الأمني مع الخصومات السياسية والطائفية التي تقلب إجرامية في آن، وبالمنظمات الحقوقية تفهما للقياسات العالمية للجودة الأمنية، كيف تتخلص الداخلية من منهجيات عفا عليها الدهر، منهجيات تلوث سمعتها، وتشينها بين العالمين، وبشباب الثورة تطمينًا أن ما جري في شارع محمد محمود لن يتكرر وسيتم محاكمة كل يد امتدت إليهم بسوء ولن يفلت مجرم من العقاب. رشدي وأبو باشا لا يزالان عالقين في الذاكرة، فهل يلحق بهما إبراهيم أم يطويه النسيان أو يلحق بنزلاء طرة من الوزراء السابقين.