إذا اعتبر البعض فوز الإخوان والسلفيين الكبير في الجولة الأولي من الانتخابات البرلمانية هو نصف الكوب الفارغ، فلا يجب أن نغفل عن النصف الآخر للكوب وهو الممتلئ. ففي هذا النصف نجد علي سبيل المثال ما يلي : أن هناك مكاسب قومية تحققت وبرزت من الجولة الأولي للانتخابات التي تناولتها في الأسبوع الماضي مثل الإقبال غير المسبوق من الناخبين والشفافية في التصويت بالرقم القومي وإعلان النتائج وهي خطوات مهمة للممارسة الديموقراطية. فشل كثير من المرشحين أعضاء الحزب الوطني المنحل، الذين " تجرأوا " وخاضوا الانتخابات، وكان من أبرز الفاشلين المهندس طارق طلعت مصطفي علي الرغم من حجم الأموال الضخم المنفق في دعايته الانتخابية. ليس هذا فحسب بل إن المرشح الذي فاز عليه، وهو المستشار محمود الخضيري، لم يكن ليفوز لو رشح نفسه قبل قيام ثورة يناير بعد معارضته القوية الصريحة لنظام الرئيس السابق. وقد حدث ذلك رغم عدم تطبيق المرسوم بقانون العزل السياسي علي الانتخابات الحالية. فممارسة الحس الشعبي بحرية وحدها هي التي سمحت للناس بحرية التصويت. أن أغلبية الفائزين في الجولة الأولي سواء علي القوائم أو علي المقاعد الفردية هي وجوه جديدة علي البرلمان في مصر. وذلك راجع بالطبع لمناخ الحرية السياسية الذي ساد بعد قيام ثورة يناير. التي سمحت لأحزاب جديدة بالقيام لم تكن لتقوم قبل قيام الثورة، وسمحت لشخصيات شابة أن تدخل المعترك السياسي الجماهيري وأن تثبت وجودها في وقت قصير مثل عمرو الشوبكي وعمرو حمزاوي ومصطفي النجار وغيرهم. فوجئت في مدينتي "منفلوط" بزميل الدراسة منذ الابتدائية المهندس مضر موسي يخبرني منذ بضعة أشهر بأنه سوف يترشح لخوض الانتخابات البرلمانية، فشجعته رغم أنني لم أكن علي ثقة من نجاحه. وهاهو يحقق فوزا كاسحا هناك. علما بأن دائرة منفلوط كانت تقليديا مغلقة تقريبا علي عائلات كبيرة معروفة. وهاهي ثورة يناير تبدأ في كسر احتكار العائلات للانتخابات. علما بأن تآكل دور العائلات والقبليات في العمليات السياسية في أي مجتمع هو مؤشر مهم علي تقدم وديموقراطية المجتمع. فالديموقراطية الصحيحة هي من شروط التقدم. والديموقراطية الصحيحة لا يمكن ممارستها في ظل سيطرة عائلية أو قبلية. حتي في نصف الكوب الفارغ نجد ظواهر إيجابية. فالذكاء السياسي لقادة حزب الإخوان المسلمين جعلهم يدخلون في تحالفات مع شخصيات ليبرالية. بل وجعلهم يرشحون أقباطا وسيدات ( غير منتقبات ) علي قوائمهم، وقد فاز بالفعل بعض منهم. ولا يمكن لأي محلل أن يخطئهم علي هذا التصرف. بمناسبة هذا النصف الفارغ يبدو لي أن الأخطر من الفوز الكبير للإخوان المسلمين وغير المتوقع للسلفيين هو ما حدث من خرق لأول مرة لأحد أهم الثوابت الدستورية عندنا طوال التاريخ المصري الحديث، منذ نشأة البرلمان في مصر وحتي الإعلان الدستوري الذي صدر في مارس الماضي، وهو منع تكوين الأحزاب علي أساس ديني. فهذه هي المرة الأولي منذ نشأة جماعة الإخوان المسلمين عام 1928 التي يتم السماح لها رسميا بإنشاء حزب سياسي يخوض الانتخابات البرلمانية ! وكان المبرر لهذا الحظر واضحاً. أنه إذا تم السماح لهم بإنشاء حزب فيجب السماح للمسيحيين أيضا بإنشاء حزب آخر. وهناك من يعتبر أن حزب المصريين الأحرار هو الرد المسيحي علي إنشاء حزب "الحرية والعدالة ". وبغض النظر عن وجود مسيحيين في الحزب الأخير أو مسلمين في الحزب الأول، فالجميع يعرف أن حزب "الحرية والعدالة " هو حزب جماعة الإخوان المسلمين، كما دار الحديث حول دعم الكنيسة لحزب "المصريين الأحرار". إذن فخطر الاستقطاب السياسي القائم علي أساس ديني قام بالفعل في مصر، بسبب خرق الدستور علنا، ليقض مضاجع المصريين. أما السماح بإنشاء أحزاب سياسية وخوض الانتخابات البرلمانية للسلفيين الذين لا يناورون في انتمائهم الديني الصريح بثقافتهم المتزمتة، وللجماعة الإسلامية التي خرج قادتها وكثير من أعضائها من السجون بعد إدانتهم في جرائم جنائية بالقتل والاغتيال، فهذا لا يقض مضاجع المصريين فقط، بل يهدد وجود الدولة المدنية ذاتها والتي بدونها لن تصبح مصر مصرا كما أكرر دائما. أنا لا أعرف كيف تم السماح بخرق الدستور بهذا الشكل المفزع. فمثلما سمحت لنا ثورة يناير بكل هذه الحرية، واجهتنا أيضا بكل هذه الفوضي التي ضربت أطنابها في كل بقاع مصر وكل جوانب الحياة فيها. من هذه الفوضي ظهر الخرق الدستوري الفاضح الذي لابد وأن تصححه المحكمة الدستورية، فلا معني لوجود المحكمة الموقرة مع هذا الخرق، وإلا فعلي ثورة يناير تصحيحه في أقرب وقت ممكن. أتصور أن هذا الخرق يهدد الانتخابات البرلمانية التي تتم حاليا بالبطلان. لاحظنا انتشار الخوف من نتائج انتخابات المرحلة الأولي حتي قبل أن تبدأ الانتخابات. مما تسبب في رد فعل خطير هو هجرة آلاف من المصريين، وشروع آلاف غيرهم في الهجرة. ليس فقط المسيحيون الذين يهاجرون، بل هناك مسلمون كثر بثت فيهم نتيجة الانتخابات في مرحلتها الأولي الرعب. كلاهما لا يريد العيش في سجن كبير. ورغم تفهمي لمخاوفهم إلا أنني أطمئنهم أن غالبية المصريين لن يسمحوا بأن تتحول بلدهم إلي سجن كبير. وأدعو الجميع أن يتمسكوا بمصر ليحاربوا من أجل مستقبلها. ثورة يناير قامت لتزرع واحة حرية، والثورة لم تنته بعد. والانتخابات البرلمانية خطوة علي طريق التغيير الجذري في مصر لتدخل الزمن المعاصر العالمي بعد أن تجاوزها هذا الزمن بكثير. ولا يمكن لمن يريد اللحاق بالزمن أن يرتدي النقاب.