عشنا و عاش ابائنا في ظل نظام سياسي لا يعرف المشاركة و التعددية . فمنذ ولدنا , و ربما منذ ولد ابائنا , لم نعرف معني كلمة التعبير . فهناك بعض المفاهيم التي لم نشعر بوجودها بشكل فعلي في اي فترة منذ ثورة 1952 . مفاهيم كالمشاركة في الحكم , حرية الرأي , حرية الصحافة , حق اقامة الأحزاب السياسية هي عبارة عن مرادفات تشير بشكل او بأخر الي حرية التعبير . نبدأ بعبد الناصر , فعلي الرغم من انه كان رجلاّ وطنياّ و قومياّ , الا انه كان رجلاّ عسكرياّ لا يعرف معني الديموقراطية او المشاركة في الحكم , مما جعله يقيد كل الحريات و يسخر كل الطاقات من اجل خدمة هدف كان يراه انه الأسمي , و هو القومية العربية , في حين انني اري انه قد استنفذ كل طاقات البلاد في حروب لا طائل منها و لا فائدة. فقد عشنا في ظل نظام حزبي واحد في ظل حكم عبد الناصر , و قد تم حل جماعة الأخوان المسلمين بعد محاولتهم اغتياله في حادث المنشية. اذا فبشكل عام , لم تكن هناك اي تعددية او حرية في عصر عبد الناصر , مما يعني عدم وجود تعبير في تلك الفترة . ثم جاء السادات , ليسمح بالتعددية الحزبية " الشكلية " , و يعطي القليل من الحرية للأخوان المسلمين , ولكن دون ان يسمح لهم بالتأثير في الشكل العام للبلاد , و دون ان يسمح لهم بأنشاء حزب رسمي . فمن المعروف ان التيار اليساري كان نشطاّ للغاية اثناء حكم عبد الناصر , الأمر الذي كان يهدد بأنقلاب انصار هذا التيار علي السادات لاتجاهه الي اقتصاد السوق و اتباع السياسات الغربية . فلم يكن امام السادات حلاّ الا ان يسمح بوجود احزاب "شكلية" و ان يعطي بعض الحرية للأخوان المسلمين , مما يؤدي الي تحجيم الحركة اليسارية في مصر , و بالتالي تتوازن المعادلة السياسية بالشكل الذي يصب في مصلحة السادات . اذا , لم يكن هناك تعبير حقيقي في ظل فترة حكم السادات , بل كانت الأحزاب مجرد ادوات لتثبيت حكمه و دعم استقراره . اغتيل السادات و جاء مبارك , و كان لديه العذر الجاهز لاضطهاد الأخوان المسلمين بحجة انهم اغتالوا السادات . فكانت فترة مبارك عبارة عن استمرار لسياسات السادات. احزاب شكلية , حالة من الشد و الجذب مع الأخوان بحسب احتياجات النظام , و قد كانت هذه السياسات ايضاّ بمثابة ادوات لدعم النظام و اضفاء غطاء من الشرعية عليه . المثال الواضح لهذا الأمر هو وجود بعض المرشحين الشكليين , بأسثناء ايمن نور , في انتخابات الرئاسة عام 2005 . ايضاّ , فقد كان حصول الأخوان المسلمين علي حوالي ربع مقاعد البرلمان في الانتخابات قبل الماضية , ثم حصولهم علي اقل من 1 % ف الانتخابات الماضية دليلاّ علي استخدام الأخوان المسلمين كأداة في ايدي النظام , مثلها مثل الأحزاب الشكلية . اذا , لم تعرف مصر معني التعبير في عصر مبارك ايضاّ . بعد هذه المقدمة الطويلة , رأينا كيف كان مفهوم التعبير غائباّ عنا , و كيف اننا لا نعرف معناه الا نظرياّ , ولكننا لم نطبقه عملياّ ابداّ ! قامت ثورة 25 يناير , و نادت جموع الشعب بحرية التعبير , فحصلنا علي حرية البعير , مع الاعتذار للبعير التي تصمد امام الحرارة و العطش لأيام , فهل نحن افضل من البعير . و قبل ان اهاجم علي هذا التعبير , دعونا نسرد بعض الوقائع التي حدثت منذ قيام الثورة , ثم نحكم علي مدي صحة او خطأ تعبيري . بعد ان كانت حرية انشاء الأحزاب مقيده , و بعد حبسهم و تعذيبهم لأكثر من ثمانين عاماّ , عاد الأخوان المسلمين , بشراسة و اصرار , مفتتحين العديد من المقرات لهم , مؤسسين حزبين و مبقين علي وجود الجماعة , مدعين عدم ترشح اي منهم للرئاسة , و هو ما لم يحدث . ثم جاء اول اختبار حقيقي لحرية التعبير , فحشد الأخوان - و بصحبتهم اخوانهم السلفيين - كل قواهم تجهيزاّ للمعركة الحربية الكبيرة التي ستحدد مصير البلاد , و التي ستحدد ما اذا كانوا سيحصلون علي 99 % من مقاعد البرلمان فيسيطرون علي البلاد , ام ان انشاء الدستور اولاّ سيتيح الفرصة للأعداء , الكفرة العلمانيين – بحسب تعبيرهم- بأن يشاركوهم في قطعة من كعكة الثورة . قام الاخوان و السلفيون –كعادتهم- بأستخدام الشعارات الدينية الخادعة لتحقيق اغراضهم , فقاموا " بتكفير " من يصوت بلا للتعديلات الدستورية , متجاهلين ما ادعوه لسنوات من رغبتهم في اقامة دولة تقوم علي "حرية" "التعبير" . و انتصر الأخوان و السلفيون في "غزوة الصناديق" , فقام بعضهم – بسخرية - بدعوة من يرفضون نتائج الاستفتاء الي ترك البلاد ! استخدم الأخوان نفس الأدوات التي لطالما استخدمت معهم , و توصلوا الي نفس النتيجة التي وصل اليها النظام بأستخدامه لهم , و اتمني ان يستمروا في نفس سياستهم حتي تكون نهايتهم كنهاية من سبقوهم . مع اقتراب الانتخابات البرلمانية , و نتيجة لحالة انعدام الوعي السياسي الموجودة في البلاد , تفهم حزب الوفد " الليبرالي" ان الطريق الي السلطة في مصر يكمن في استخدام الشعارات الدينية . لكن الوفد حزب ليبرالي , و من غير المنطقي ان يقوم بدعاية دينية و هو قائم علي الوحدة الوطنية و المواطنة . فكان الحل هو التعاون مع الاخوان المسلمين من اجل ضمان حصول الوفد علي عدد لا بأس به من المقاعد , يتيح له المشاركة في السلطة , و علي الجانب الأخر يمكن لحزب الوفد التأثير علي شريحة اخري من المجتمع , و هم الليبراليون , الأمر الذي يعتبر مكسباّ للأخوان ايضاّ . اذاّ , استخدم حزب الوفد نفس الأدوات حتي يحصل علي نصيب في الكعكة . بعد هذا السرد , هل تري ان نتائج الاستفتاء الدستوري كانت معبرة عن رغبات الشعب بحق ؟ و هل تري ان الانتخابات البرلمانية القادمة ستكون قائمة علي حرية التعبير ؟ انني اري ان المشكلة تكمن في اننا – منذ نعومة اظافرنا - لم نعرف معني التعبير بالأساس حتي يمكننا ان نعبر بحرية . فحتي في مجال التعليم , كان التعبير عبارة عن قطعة او نص يحفظ و يكتب في الامتحان ويقاس" بالحجم " , دون ان نشعر فيه بأي " تعبير " ! في الأشهر الماضية , اعتبر البعض ان حرية التعبير تعني قطع الطرقات و الامتناع عن العمل تعبيراّ عن الغصب . كما اعتبر البعض ان واجبهم الديني يحتم عليهم مهاجمة الكنائس و سب الشيوخ و منع ائمة وزارة الأوقاف من تأدية عملهم . فهل هذا هو معني حرية التعبير ؟ ام انها بحق " حرية البعير " ؟