لم يمانع الرئيس الأمريكي في التخلص من أعداء بلاده بشرط إبعاد اصبع الاتهام عن الإدارة الأمريكية، من جهة، وعنه شخصياً، بصفة خاصة. وللاحتفاظ بهذه البراءة النظرية وضع أيزنهاور بعض الضوابط مثل تجنيد عملاء من داخل بلد الحاكم أو الرئيس المطلوب إسقاطه أو تصفيته، وتكليفهم بتنفيذ العملية التي تخططها وتمولها وكالة المخابرات المركزية عن بعد! وحتي إن حدث خطأ وانكشفت الحقيقة فما أسهل علي الإدارة الأمريكية من اتهام ال»سي آي إيه« بأنها وحدها المسئولة وأن البيت الأبيض لم يسمع ولم يعرف شيئاً عن هذه المؤامرة إلاّ بعد فضحها! ولا بأس من الإطاحة بعدد من صقور وكالة المخابرات كأكباش فداء لساكن البيت الأبيض! ولنري ماذا فعلت إدارة أيزنهاور في الخمسينات من القرن الماضي للإطاحة بالرئيس المصري جمال عبدالناصر الذي اعتبرته واشنطون آنذاك: معادياً خطيراً للمصالح الأمريكية ليس فقط في منطقة الشرق الأوسط وإنما في معظم دول العالم الثالث(..). في الفصل الذي خصصه الكاتب السويسري إيتان دوبوي عن المحاولة الفاشلة للتخلص من الزعيم جمال عبدالناصر قرأت الكثير من المعلومات التي قد نكون سمعنا عن بعضها، وفوجئنا ببعضها الآخر الذي لم نكن نعرفه. يعيدنا الكاتب إلي أيام إدارة الرئيس الأمريكي الأسبق ترومان الذي كان يميل في البداية إلي دعم استمرار الوضع في مصر قبل ثورة يوليو 1952 لكنه سرعان ما غيّر رأيه عندما تبين أن الملك فاروق ليس علي مستوي التطورات الجديدة في دول العالم الثالث ورغبة شعوبها في التخلص من الاحتلال ومن الهيمنة الاستعمارية والسعي إلي التحرير والاستقلال. في بداية النصف الثاني من القرن العشرين تابع العالم حركة »الضباط الأحرار« وتعرف علي برنامجهم وأهدافهم لتحقيق آمال المصريين والتخفيف من آلامهم. ولقيت أهداف الضباط المصريين الأحرار صدي مؤيداً لها لدي الإدارة الأمريكية، بعكس رد فعل بريطانيا العظمي الذي كان بالطبع رافضاً حركة الضباط الأحرار ومؤيداً في الوقت نفسه الإبقاء علي النظام الملكي في مصر ليس حباً في الأسرة المالكة وإنما حفاظاً أولاً علي استمرار تبعية مصر لبريطانيا الممثلة في قواتها العسكرية الضخمة في منطقة قناة السويس. أهداف حركة الضباط الأحرار من وراء اشعالهم ثورة يوليو1952 كانت مبهرة بالنسبة للإدارة الأمريكية لأنها من وجهة النظر الأمريكية مقصورة علي إنهاء آلام المصريين وتحقيق آمالهم في معيشة كريمة عادلة، واسترداد حريتهم وتحرير بلادهم من المستعمر البريطاني، وهذا ضمان بالتالي لإبعاد ثورتهم وبلادهم عن أي مشروع للهيمنة الشيوعية حالياً أو مستقبلاً. فليس من المعقول أن تقوم حركة الضباط الأحرار بثورتهم من أجل تحرير بلادهم من الاستعمار البريطاني لتستبدله بالهيمنة الشيوعية السوفيتية. وفيما عدا هذا »الضمان« مرت الإدارة الأمريكية مرور الكرام علي باقي أهداف مفجري الثورة المصرية، وأبرزها: غضب الضباط الأحرار من ضعف القدرات المصرية التي سمحت لدولة صغيرة تكاد لا تري في خريطة الشرق الأوسط : إسرائيل أن تلحق الهزيمة بالجيش المصري وبكل الجيوش العربية المشاركة في حرب السنوات النهائية لعقد الأربعينات، مروراً علي سخط الضباط الأحرار علي انعدام العدالة الاجتماعية واستحواذ قطاع الإقطاعيين علي كل الأراضي المزروعة وحرمان زارعيها ومنتجيها من أبسط حقوقهم في العيش الكريم، وامتلاك حفنة من تلك الأراضي. .. وأستأذن القاريء الكريم في تأجيل الحديث للغد.