لعشرات المرات إن لم يكن مئاتها، استمعت إلي بعض شباب التحرير وثواره، سواء في تصريحات تليفزيونية أو صحفية، أو في لقاءات مباشرة في مكتبي، وبالذات مع بعض الذين كانوا حضور برنامجي التليفزيوني »حالة حوار«، ولاحظت تكرار تأكيد أولئك الشباب بأن عناصر معنية من الذين يدعون أدوارا في نشوب الثورة واستمرارها ليسوا منهم. وفي كل مرة ارتكب فيها شخص أو فصيل فعلا ما يحظي بالإدانة العامة، سواء في أحداث ليلة السفارة الاسرائيلية، أو في محاولة اقتحام وزارة الداخلية، أو التحرك نحو تعطيل الملاحة في قناة السويس، أو إغلاق مجمع التحرير للمصالح الحكومية، كنت استمع من شباب الثوار بأن أولئك من المندسين، وليسوا من ابناء يناير علي أي نحو. وكنت - باستمرار- أري أننا- جميعا- ينبغي ان نعبر فوق هكذا أحداث، لأننا نريد لمسيرة الثورة ان تكتمل بوصفها طريق مصر إلي بناء دولة عصرية ديمقراطية دستورية، وكنت - باستمرار- أري أن شباب الثورة هم ظاهرة نبيلة، ودورهم يعني إعادة اكتشاف للقوي الأكثر ايجابية وفاعلية في البلد، ولإسهامها المفترض في هندسة وبناء المستقبل.. وكنت - كذلك وباستمرار- أري أن المراهنة علي شباب الثورة في محلها طالما ان الخروقات والتخريب وإطاحة مقتضيات الأمن القومي هي من شأن مجموعات رأي شباب الثورة أنها لا تمثلهم، بالضبط كما رأوا بعض المتمولين الذين قفزوا علي رفرف سيارة الثورة، أو بعض رموز القوي السياسية التقليدية الذين اختطفوها وساروا بها إلي حيث يريدون »وهؤلاء أطلقت عليهم وجهاء الثورة الذين ادعوا حيازة توكيلها التجاري، وأسموا أنفسهم بالحكماء تارة وبالأمناء تارة أخري، وغير ذلك من الادعاءات التي ينفيها الشباب أنفسهم«. وفي مناقشات تواصلت مع الشباب الذين - ربما- أدعي أنني أفهم أكثر من غيري أسباب حيرتهم ومبعث تمردهم، ومنطقية الكثير من مطالبهم، كان حضور ملف المندسين علي ركب الثورة كبيرا، يصخب أحيانا ويخفت أحيانا، ولكنه كان موجودا طيلة الوقت. ولقد راقبت- علي التوازي- طرح مطالب العزل والتطهير السياسي لعناصر الحزب الوطني المنحل باعتبارهم أسهموا- بدرجات متفاوتة- في إفساد الحياة السياسية في مصر، ووقر في يقيني ان المندسين في مسيرة الثورة، والمتحدثين باسمها، والمدعين أدوارا ليست لهم، والمرتكبين خطايا سياسية مروعة حظيت برفض الشعب وسخطه، والمتمترسين خلف شاشات الفضائيات في ضيافة بعض المذيعين ذوي المواقف المشبوهة، لهم خطورة أكبر بكثير من فلول الحزب الوطني، لأنهم يرتدون مسوح الثورة، ويفرضون علي المشهد العام أنفسهم بوصفهم صوتها وطليعتها. لقد أسهم أولئك بأكثر من قوي الثورة المضادة في تشويه صورة الثورة والثائرين، وصاروا الأكثر جدارة بالتعقب والمطاردة والعزل. تطهير الثورة بات - الآن- أولوية ينبغي المضي في انجازها وعلي أيادي الثوار أنفسهم. ولا أتحدث - هنا- عن بعض السياسيين والمتمولين الذين يضربهم معتمصو التحرير ويطردونهم علي مرأي ومسمع منا جميعا، ولكنني أتكلم عن هؤلاء الذين يتفننون في تشكيل صورة كريهة جدا، ومتعالية علي الناس باعتبارها مشهد الثائر في زمن الثورة! أعرف أن هناك من شعروا بالخديعة حين أيدوا الثورة بكل قواهم ثم وجدوا مثل أولئك يتصدرون المشهد، ويتقدمون الصفوف، ويمارسون إرهابا استبداديا حقيقيا علي الشعب، وعلي خصومهم السياسيين حتي داخل جسم الثورة نفسه. وأتوقع أن أري من يعد قوائم بأسماء أولئك الذين صاروا عبئا علي أكتاف الثورة ويسهمون في توسيع الهوة بينها والجماهير في كل يوم. وعلي أني لست من المحبذين لمنطق الحصار والنفي والاقصاء، إلا أنني أري ضرورة لابعاد جسم الثورة عن أولئك الذين يسيئون إليها.. بعبارة أخري، الثورة صارت تحتاج إلي تطهير حان وقته، وطرح نفسه بوصفه أولوية تجاوز غيرها، وتطهير الثورات الكبري ظاهرة عاشها العالم مرات، وثبت ان أهميتها في استمرار الثورات تفوق أية أهمية أخري. وحضور فكرة تطهير الثورة وأولويتها جاء من ان استمرار الوضع الحالي، يراكم بواسطة المنتسبين لركب يناير، والمندسين في مسيرته أوضاعا مستقبلية يصعب إن لم يستحل تغييرها، لأن استمرار ظهور أولئك اعلاميا وميدانيا يضفي عليهم صورة »الرموز« أو العلامات الدالة علي الثورة، وهو ما بدأ يحدث بالفعل، عبر تواصل الإلحاح الاعلامي علي أسمائهم وظهورهم كما نلاحظ جميعا. ومما زاد الطين بلة، وأسهم في رفض الشعب لهم، تلك التقلبات غير المنطقية التي انخرطوا فيها، بين مواقع فكرية وسياسية متعارضة ومتناقضة، إما لتحقيق مكاسب انتخابية، أو لتسخين المزاد بين الجميع علي اجتذابهم أو ضمهم للصفوف، يعني يخلقون علي أنفسهم طلبا سياسيا لم يكن موجودا قبلا في السوق! كما ان تطهير الثورة يضع حدا لعملية المتاجرة بتضحيات الشباب ودمائهم، والتي بلغت حدا غير متصور في انحطاطه. وأخيرا فإن تطهير الثورة يعصمها من هاوية العداء مع الشعب، التي يدفعها المندسون إليها بمواصلة وإصرار. وأخيراً.. فإن فكرة تضمين عناصر ثائرة شابة في تشكيل الحكومة تبدو ممتازة إذا توافرت لهم الخبرة والمعرفة الفنية اللازمة، ولكن الخطورة هي أن نجد أولئك المندسين، والذين ألصقوا أنفسهم بالثورة، هم الذين يمثلون الشباب الثائر في الحكومة، والذين ربما رشحهم لذلك بعض وجهاء الثورة السالفة إشارتي إليهم. التطهير أصبح ضرورة بعد كل ما نشهده من اختلاط في الإنساب الثورية، وحتي يمكننا الاشارة إلي الثورة باعتبارها الكائن السياسي الذي عرفناه وأيدناه بكل قوانا حين ظهر علي سطح الحياة.