لا أدري لماذا أتذكر أشخاصاً بعينهم حينما أمر بهذه الأماكن، أم للمكان رائحة الرجال، كنت متجهاً إلي بلدتي »الشهداء« تلك التي تحتضن قرية »دنشواي«، وأخذت أفكر فيما نضحت به الأرض من نبت أصيل يشد العزمات في الشدائد، ويمسح الدمع في الملمات وصادفتني.. »سبك الضحاك« الباجور تنقر ذاكرتي، آه يا عمنا محمود السعدني، شجرة فارعة من ألوان شتي، الإنسانية الضافية، كظلال تمتد إلي الأبد، ونهر آسر بسحر ترعة الباجورية يسبح إلي »الشهداء« حيث هناك شجرة فارعة مثيلة، هو عبدالوارث الدسوقي وما بينهما وشيجة الأصالة التي تضرب جذورها في باطن الأرض حتي لا يستطيع امرؤ أن يقتلع منهما شيئاً، أواصل السير ببدني، لكن عقلي ووجداني وكياني وكل ما أمتلك من دقيق الإحساس توقف هنالك عند محمود السعدني المغوار الذي أذاب الكلمات علي فمه وهي رصاص من نوع خاص جداً يضرب باتجاه النخاسين والكذبة الذين حولوا الكلام إلي تجارة، ومضي يبعث روحاً جديدة في أدبنا المعاصر لم يكن لأحد غيره أن يلجها، إنه بحق بركان من المشاعر التي تقف علي حافة المستحيل، ليس للحروف فيه إلا معاني الانفجار والتقدم إلي قلب المعارك، علمنا لحظة اليأس أن تتحول الأشياء من حولنا إلي ساحة ساخرة من نفسها، فيستحيل اليأس إلي ضحكة كبيرة باتساع السماء من الأمل، دار في الأرض بجناحي طائر مغرد يتألم من نباح المطاردين له من أسفل سافلين، تشبه المطاردة اليومية ذلك تماماً، ولم يستطع أحد أن يهز ريشة في جناح الطائر المهاجر طوال العمر، نعم أشم رائحة المكان في كلمات السعدني تختلط بآهات الشعب ونكبات الأمة، وأتذكر يوم اندفعت إلي الأستاذ عبدالوارث الدسوقي أسأله لماذا لا يكتب السعدني في بلده، لماذا توصد الأبواب دون أبناء الوطن وهم أولي به، وهو أولي بهم، وكانت الإجابة صمتاً أكبر من الكلام، فكتبت أنا إننا محرومون من رمق الحياة الذي ربما يكون الأخير، كان إذا تكلم كتب أجمل النثر وألذع العبارات، فنشعر بخلايا النحل وأقراص العسل، وجرعة الماء عند الهجير المتصل، لقد امتد ظلك يا سيد الساخرين، وإمام المنتفضين إلي هذا البلد الذي أحبك، ورسم صورتك في صدر أبنائه الذين تعلقوا باللارنج والجميز والليمون، وأخذوا يحصدون البرسيم والقمح وأعواد الذرة، هي بسمتك التي تلف المكان مهما تنقلت بين المدائن، واحترقت بكل المصائب، كانت جراحك تلتئم دون عناء، وساءلت نفسي، لأنك كنت تسخر من ألم الدنيا فصار ضئيلاً نحيلاً لا يعذبك ولكنه أشجاك، وفتح أمامك أبواب الحرية، ومن خلفك كل من قرأوك أو تبعوك، نعم كل من أحبوك عنواناً للألم الساخر الحبيب، هناك علي أطراف المنوفية، أتذكرك قبل أن ترحل عن دنيانا بأيام قليلة، أتوسم في الأماكن التي كنت ترودها أن تنشق عنك فجأة فأخاطبك وأناديك بكل الصفات التي كنت تحبها، يا أسير المحبة، أخذتك الحياة علي غرة، وأنت في عرش الكلمات تسوق أمامك الكلمات، تبذرها وتذرأها في صعيد الأحبة، ها أنت ذا تنسي ما فعلته بك الليالي الجارحة، ها أنت ذا تنسي الطعنات المبرحة، ها أنت ذا تسخر من الدنيا كما سخرت منا.