يؤكد التقرير الحديث، الصادر عن الصندوق العالمي للطبيعة الخاص بسنة 2018، أن »الطبيعة في العالم تقدم خدمات تقدر قيمتها المادية ب 125 تريليون دولار سنويا، كما تضمن توفير هواء نقي ومياه نظيفة للبشر» هذه الثروة المهمة تبدو كافية لتلبية حاجيات المجتمعات البشرية جميعها، إن هي وجدت المسالك معبدة للوصول إلي الأفراد والجماعات داخل هذه المجتمعات. لكن الإشكال يتمثل أساسا في أن الخدمات التي تنتجها وتفرزها حركات الطبيعة فوق كوكب الأرض، لا تصل إلي كل البشر بالعدل وبالمساواة اللازمين اللذين يحققان الإنسانية المثلي، بل إن المسالك التي أفرزتها وعبدتها طبيعة وخصوصية العلاقات الدولية السائدة، جعلت بعض المسالك فسيحة جدا تمر منها كميات كبيرة من هذه الخدمات، وبعضها الآخر ضيقا تمر منه بعضها بصعوبة، بيد أنه يتعذر علي هذه الخدمات التسرب في مسالك مختنقة بالمرة، ويترجم هذا التشبيه بالتفاوت الكبير والفظيع من استفادة البشر جميعا، مما تتيحه وتنتجه خدمات الطبيعة. وهكذا، ففي الوقت الذي كان فيه قادة الاتحاد الأوروبي يجتمعون بمقر الاتحاد ببروكسيل، لبحث ما سمي (بأولويات السنوات الخمس المقبلة) صدر بالتزامن مع اجتماعهم تقرير مهم مشترك بين الشبكة العالمية للبصمة البيئية، والصندوق العالمي للطبيعة أكد »أن دول الاتحاد الأوروبي الثمانية والعشرين تستهلك موارد كوكب الأرض بوتيرة أسرع بكثير من تجددها، وأن لا واحدة من هذه الدول تطبق سياسات مستدامة للاستهلاك »، ولم يتوان التقرير الصادم في الكشف عن حقائق مذهلة تؤشر علي هيمنة شعوب بعينها علي ما تفرزه الطبيعة من خيرات وخدمات، في حين تواجه شعوب كثيرة خصاصا وعوزا فظيعين يتسببان في كوارث إنسانية حقيقية، وليس أقل هذه الحقائق خطورة من الإقرار مثلا، بأن »كل دول الاتحاد الأوروبي تعيش علي أكثر مما تسمح به موارد كوكبنا، وأن مواطني الاتحاد الأوروبي يستخدمون ثلثي ما تستطيع الأنظمة البيئية في الاتحاد الأوروبي تحديده، وأنهم يستهلكون ما يقارب 20 بالمائة من الإمكانات الحيوية للأرض، رغم أن هذا الاتحاد لا يضم إلا سبعة بالمائة فقط من سكان العالم»، وهذا يعني ببساطة كبيرة جدا أن 7 بالمائة من سكان العالم يستهلكون ما كان يجب أن يستهلكه 20 بالمائة من سكان البسيطة. كما يعني أيضا وبكل أسف وحزن أن الفرد الأوروبي الواحد يستهلك ما كان يجب أن يستهلكه ثلاثة أشخاص آخرون ينتمون إلي نفس الجنس البشري ألقت بهم الأقدار للعيش في مناطق أخري من العالم. إن هذه المعطيات والحقائق تكشف عما يسعي النظام الاقتصادي العالمي السائد التستر عليه، والذي وفر الشروط الموضوعية والذاتية، التي مكنت فئة محدودة العدد من سكان الأرض من الاستحواذ علي عائدات هذا النظام الاقتصادي، والاستفراد بالاستفادة مما أنتجه من مظاهر وأشكال جودة العيش، سواء تعلق الأمر بالاستفادة من تغذية مناسبة ومكتملة أو من خدمات اجتماعية راقية، تضمن له الحفاظ علي أجواء وشروط جيدة للعلاج والتنقل وتربية النشء في ظروف جيدة، وتملك ما استطاع إليه سبيلا والادخار للمستقبل. هكذا إذن، فإن الطبيعة تقدم خدمات بقيمة 125 تريليون دولار، دون احتساب القيمة التي تصير عليها هذه الخدمات بعد تطويرها وتحسينها أو تصنيعها، وهي ثروة قادرة علي توفير حد مقبول من جودة العيش، لجميع الذين يحيون فوق كوكب الأرض من بني الإنسان، لكن مع كل ذلك، فإن مظاهر المجاعة تفتك بعشرات الشعوب، بينما يدوس الفقر أبسط مظاهر الكرامة الإنسانية، لدي ملايين أخري من البشر، ناهيك عن عشرات الملايين الأخري من الأفراد والجماعات، الذين ألقي بهم التوزيع الظالم، لما توفره الطبيعة من خيرات وخدمات إلي أحزمة الهامش والإقصاء، مما يترتب عن كل ذلك من انعدام كلي لأدني مواصفات الحياة الإنسانية، بينما هنالك في الجزء الأوسط من نفس الكرة الأرضية، يستهلك الفرد أضعاف ما يحتاجه ويلقي بما تبقي من استهلاكه بعد تحقيق الإشباع الكامل، في القمامات والمزابل. المثير فيما نحن بصدد الحديث عنه، أن منظمة الأغذية والزراعة التابعة للأمم المتحدة ( فاو )، كشفت في بداية الشهر الجاري عن بيانات رسمية، أكدت من خلالها أن أسعار الغذاء العالمي ارتفعت خلال الشهر الماضي بنحو 1,5 بالمائة، مقارنة بما كانت عليه، لكنها بشرت بارتفاع قياسي هذه السنة في إنتاج الحبوب، والذي سيصل إلي 2722 مليار طن بزيادة 2,7 عن إنتاج السنة الفارطة من نفس المادة. وفي كل هذه المعطيات تضاربات محيرة، فالطبيعة والأنشطة الإنسانية تزيد من استنزاف احتياطي الغذاء والخدمات، لكن الوصول إليهما لا يبدو متاحا بنفس السهولة بالنسبة لسكان كوكب الأرض، حيث يبدو تحقيق ذلك والاستفادة منهما متفاوتة بين الأفراد والجماعات والشعوب، والأفضلية والأسبقية، والحظوة في ذلك للإنسان الأشقر الوسيم المنتمي للنسل الجميل والمحظوظ، والذي يحيا حياة رغيدة في أجزاء معينة من خريطة هذا العالم حيث تتكدس الخيرات والنعم. ومع كل ذلك لا يجدون صعوبة ولا يخجلون في الحديث عن قيم ومبادئ المساواة والعدل بين بني البشر بغض النظر عن لون بشرتهم وعن دينهم وعرقهم.