»نهاية العالم» أضحت بحق نتيجة محتملة لاختلالات عميقة بين من يأتي إلي هذا العالم ومن يرحل عنه. حينما أطلق عالم الفيزياء الأكثر شهرة في العالم، البروفيسور البريطاني ستيفن هوكينج نظريته الشهيرة حول نهاية الحياة فوق سطح الكرة الأرضية وانقراض العنصر البشري في الكون، واحتمال أن تكون سنة 2600 موعدا نهائيا لهذه الحقيقة العلمية المثيرة للجدل، فإنه كان يبني تكهناته علي أساس الدمار الذي يمارسه الإنسان ضد حياته. وقال في هذا الصدد، إن كوكب الأرض سيتحول إلي »كرة نارية» غير قابلة لاحتضان حياة ما. واستدل علي ذلك بالارتفاع المهول في نسب التلوث، الذي تفرزه السلوكيات الفردية والجماعية في كل لحظة بسبب الأنشطة الإنسانية المتعددة، ناهيك عن النمو المضطرد في الطلبات علي الطاقة، حيث ما فتئت مؤشرات الطلب المتزايد عليها تتجه نحو الصعود والارتفاع. ربما لم يستحضر هذا العالم ما إذا كان البشر سيبقي علي وجه الأرض في هذا السقف الزمني الذي وضعه لنهاية الحياة. أو لنقل إن الرجل المهووس بنظريات الفناء العلمية كان ينظر إلي العالم من موقعه العلمي التخصصي الضيق. كما قد لا يكون مستبعدا أن الفيزيائي الشهير كان من خلال هذه النظرية يخيف الإنسان من الأنشطة المضرة بالحياة. سيادة اليهود كثيرة هي الأصوات التي ترتفع منبهة إلي خطورة نهاية العالم، تلتقي في نهاية قناعتها مع الفيزيائي البريطاني، وإن خالفته في الأسباب والدواعي. فعلماء الدين وفقهاؤه أبحروا في هذا الاعتقاد، وربط المسلمون منهم نهاية العالم بقيام الساعة، وقسموها بين علامات صغري وأخري كبري. فالأولي يمكن أن تحدث قبل يوم القيامة بزمن طويل، ويمكن أن تقع في أماكن دون غيرها، وقد يشعر بها البعض دون الآخر. خلاف العلامات الكبري التي تحصل مع قيام الساعة مباشرة. في حين يربط المسيحيون نهاية العالم باشتعال الحروب بين الأمم وانتشار المجاعات وانفجار الكوارث الطبيعية في الكون، إضافة إلي سيادة مظاهر الفساد والظلم بين الناس. بيد أن الحاخامات اليهود القدامي رهنوا نهاية العالم بظهور البقرة الصفراء المقدسة، وبمعركة هار مجدون التي ستشتعل في فلسطين، وأن اليهود المؤمنين سيحققون النصر المبين، وسيسود اليهود العالم بأسره. والحقيقة اليوم، أنه إذا كانت البقرة الصفراء لم تظهر بعد وأننا مازلنا بصدد البقرة القادمة من الأراضي المنخفضة بأثدائها المثقلة بالحليب، فإن لا أحد ينكر أن سيادة اليهود في العالم آخذة في التحقق. ليس كل هذا فقط، فللقضية زاوية نظر علمية أخري مختلفة عن كل ما استندت إليه المراجع السابقة، ذلك أن النسب والأرقام والإحصائيات المرتبطة بمعدلات النمو الديموغرافي في العالم بأسره أصبحت مخيفة للبشرية قاطبة. فموازين القوي بين المواليد والأموات آخذة في التباعد، فالعالم يفقد من البشر أكثر مما يستقبل من الوافدين الجدد عليه، مما يؤشر علي اختلالات فظيعة في البنية السكانية في العالم. وهذه إشكالية مستجدة احتلت مواقع متقدمة جدا في انشغالات الحكومات والمنظمات الدولية المختصة. فاليابانيون مثلا، لا يغمض لهم جفن وهم ينظرون إلي نهايتهم المحتملة بعد سنوات منظورة. فعدد سكان هذا البلد الذي كان يقدر في سنة 2010 ب 128 مليون نسمة هو آخذ في التراجع والانخفاض المهول. وطبقا لتقديرات المعهد القومي للسكان في اليابان فإن مجموع سكان اليابان في سنة 2040 لن يتجاوز 107٫2 مليون وسيتهاوي العدد إلي أقل من مائة مليون بحلول سنة 2050 (97 مليون نسمة فقط) وهذا يعني أن نسبة السكان في هذه الإمبراطورية تتراجع بنسبة لا تقل وربما تزيد عن ثلاثين مليوناً كل أربعين سنة، ولنا أن نعد بدقة مصير أعداد سكان اليابان بعد 300 سنة أو أقل من ذلك. التوازن الديموجرافي ثم إن الإحصائيات المرتبطة بالتوازن الديموجرافي في الغالبية الساحقة من دول العالم أضحت تمثل هاجسا مخيفا وموقظا لشعوبها. فقد انتهي زمن الإشكاليات التقليدية في هذا الشأن وحل محلها جيل جديد من الإشكاليات التي قلبت الموازين رأسا علي عقب. في السابق غير البعيد، كانت المجتمعات الإنسانية منشغلة بقلق بارتفاع معدلات النمو الديموغرافي في العالم، وكان الباحثون والمتخصصون والأكاديميون ينبهون إلي خطورة الانعكاسات السلبية، علي الحياة الإنسانية خصوصا فيما يتعلق بالموارد المائية التي لن تصبح كافية لتلبية الطلبات المتزايدة علي الماء، وجودة الخدمات الاجتماعية من صحة وتعليم وسكن وغيرها كثير، إضافة إلي ضعف الموارد الطبيعية الذي سيفضي إلي عجوزات كبيرة في التغذية. وانتهزت الفرصة كبريات الشركات الغربية للمتاجرة بانشغالات الناس وخوفهم من الترويج لهذه المخاطر باستخدام وسائل الإعلام للتخويف والترهيب وراكمت من وراء ذلك أرباحا مالية كبيرة بواسطة تسويق أدوات منع الحمل وأساليب الحد من الولادة. وفجأة وجدت الكثير من الأمم نفسها أمام الحقيقة المذهلة، حينما أدركت أنها بانسياقها وراء طروحات تقليدية، فإنها تقلص حظوظها في الحياة، ولم تنتبه إلا وهي تدمر نفسها. ومن هنا بدأ الحديث عن الجيل الجديد من إشكاليات التوازن الديموغرافي في المجتمعات العالمية من قبيل شيخوخة المجتمعات، إذ في مقابل ارتفاع معدلات الأمل في الحياة إلي مستويات قياسية وتراجع مهول في معدلات الإنجاب اتجهت الخريطة الديموغرافية في الغالبية من دول العالم إلي الشيخوخة، وهذا أضحي يعني تراجعا مهولا في القدرات المتعلقة بالنشاط الاقتصادي، حيث تراجع بذلك عدد السكان النشيطين، بالضغط الذي يتعرض له المجتمع بسبب الإقبال علي جودة الرعاية الاجتماعية بفعل الأمراض المرتبطة بالشيخوخة وبسبب الاختلالات التي طالت بني التقاعد، ولذلك راح كثير من هذه الدول تستجدي الهجرة إليها من دول لاتزال تتوفر علي مخزون بشري كاف. إحصائيات مذهلة الإحصائيات مذهلة في هذا الشأن، فدولة عظمي في حجم الولاياتالمتحدة لا يتعدي فيها معدل النمو السكاني 0٫66 بالمائة وهو قريب جدا من معدل الوفيات هناك، بيد أن هذا المعدل لا يتجاوز 0٫99 بالمائة في دولة في حجم كندا، وينزل إلي 0٫77 بالمائة في شبه الجزيرة الإيبيرية (إسبانيا) وينخفض إلي 0٫49 بالمائة في فرنسا، وإلي 0٫42 في بريطانيا. والأكثر قلقا في هذا الصدد ما يتعلق ببلدان في حجم ألمانيا التي ينخفض فيها معدل النمو مقابل نسبة الوفيات بناقص 0٫07 بالمائة، في حين ينخفض هذا المعدل بالنسبة لدولة في حجم روسيا إلي ناقص 0٫51 بالمائة. وإذا كان معدل النمو السكاني في العالم لم يفتر عن الارتفاع في الزمن القريب وكانت أرقامه تخيف الأكثر تفاؤلا، فإنه لم يعد كذلك إذ تواري إلي التراجع بشكل مذهل، ولنا أن نوضح بهذه المناسبة أن معدل النمو السكاني في العالم لم يعد يتجاوز 1٫77 بالمائة. وأن أعلي هذه المعدلات في العالم لا يتعدي حاليا 4٫50 بالمائة كما هو الحال عليه في ليبيريا و3.90 بالمائة في دولة بروني. والأدهي من ذلك أن هذه النسب الضئيلة والمقلقة ليست قارة ولا ثابتة، بل هي بدورها متغيرة ولكن في اتجاه التراجع والانخفاض، مما يعني أن القلق يضحي مضاعفا إزاء هذه الإشكالية، وتكفي الإشارة في هذا السياق إلي أن سقف الرهان لدي بعض الأوساط المختصة أصبح مقتصرا علي تحقيق التحكم في هذه النسب في اتجاه استقرارها وليس الحد من ارتفاعها. اسعافات كبيرة ولم تنفع الإسعافات الكبيرة التي أقدمت عليها العديد من الحكومات الوطنية لتحسين النسل والزيادة في معدلاته لبعث أجواء اطمئنان. فالحكومة الفرنسية مثلا لم تدخر جهدا في تعزيز سياسة وبنية الخدمات الاجتماعية خصوصا ما يتعلق بالتعويض عن الأبناء وضمان شروط خدمات اجتماعية لهم، إلي درجة ارتفعت فيها أصوات منبهة إلي الإنعكاسات المالية الكبيرة للسياسة الاجتماعية الفرنسية في هذا الصدد، لكن كل ذلك لم يجد نفعا في تحفيز الناس علي الزيادة في الإنجاب. ولم تقنع التحفيزات الكبيرة التي وفرتها حكومات الدول الإسكندنافية لمواطنيها لإغرائهم بزيادة معدلات الإنجاب. فالأم في دولة السويد مثلا يمكن أن تستفيد من عطلة سنتين كاملتين مؤدي عنها في حالة الإنجاب، كما يستفيد الأب من سنة عطلة مؤدي عنها ويمكنه التنازل عنها لفائدة الزوجة. والواضح أن التحولات الاجتماعية والاقتصادية والثقافية الحاصلة في المجتمعات وراء نفور الناس من الإنجاب، إذ أن تكاليف الحياة التي اتجهت جميع مؤشراتها إلي الارتفاع بشكل مهول خلال السنوات القليلة الماضية، وعدم الإطمئنان للمستقبل القريب والبعيد وتغير طبيعة الأسرة، وبروز قيم أخلاقية جديدة في المجتمعات الإنسانية كلها عوامل نفرت الأشخاص من الإنجاب. فالإنجاب لم يعد حاجة بيولوجية غريزية لدي الفرد بقدر ما تحول إلي حاجة مقيدة بشروط ورهينة الإمكانيات والوسائل. فالغالبية الساحقة من الأفراد يسعون إلي ضمان مستقبل أكثر جودة للأبناء، فلا أب ولا أم في العالم بأسره لا يحلمان لأبنائهما بزمان أحسن وأفضل من زمانهما. وكل إفراط في الإنجاب سيكون علي حساب هذا الحلم. »نهاية العالم» لم تعد احتمالا علميا يستند إلي تدمير الإنسان لمقومات الحياة، ولا اعتقادا دينيا يري أنه لابد من قيام الساعة لبداية حياة جديدة، بل أضحت بحق نتيجة محتملة لاختلالات عميقة بين من يأتي إلي هذا العالم ومن يرحل عنه. نقيب الصحفيين المغاربة