ليست نوستالجيا. حتي إذا كانت كذلك فهي ليست نتاج حالة نفسية بالاشتياق إلي الماضي. نادية لطفي بيننا وأطال الله في عمرها ومنحها الصحة. لكن وجه نادية لطفي يمشي مشرقا مع كل من عاصر ظهورها وتابع أفلامها. لا أنسي طلة وجهها لأول مرة أراها في فيلم سلطان. كنت صغيرا وفي سينما درجة تالثة بالإسكندرية هي سينما النيل أو سينما مصر فهذا اسمها لكنها حملت اسم الشارع الذي كانت تقع فيه وهو شارع النيل في كرموز. كانت اللقطات القريبة علي وجها تضيء السينما حولنا وتنسيني الزحام ورائحة الأرض والضجيج كان يتوقف. ورغم دراما الفيلم وفريد شوقي لكن ظل وجه نادية لطفي هو الراحة من أيّ دراما وهو الداعي للتأمل. نادية لطفي »بولا محمد مصطفي شفيق» التي اكتشفها رمسيس نجيب في نهاية خمسينات القرن الماضي وهي من مواليد القاهرة حي عابدين وتعلمت في المدرسة الألمانية ومارست كثيرا من الهوايات مثل الرسم والتصوير حتي استقرت علي التمثيل الذي أدركت أنه ليس مجرد أداء بل ثقافة أيضا ومعرفة. وتتابعت أفلامها بين الرومانسية والواقعية وبين التراجيديا والكوميديا ورغم جمالها وروعة طلتها وتكوين جسدها الذي كان يغري بقصص الحب والرومانسية إلا أنها شاركت في أفلام تراجيدية لم تتكرر روعتها مثل السمان والخريف والأخوة الأعداء ووراء الشمس وقاع المدينة والمستحيل والنظارة السوداء والأقمر وغيرها. تتالت الأفلام لنادية لطفي وليست محتاجة للمديح عن قيمتها الفنية وتنوعت بين الرومانسية والدراما والخروج علي المتوقع وكان مدهشا أن هذه الجميلة يمكن أن تلعب دور المرأة الشعبية في فيلم مثل قصر الشوق. العالمة التي صار لها بيت والتي يفوق جمالها الطبيعي الجمال المتوقع من أي عالمة تعودنا عليها في السينما المصرية. صورة أخري لقدرات الفنانة الجميلة علي التنويع في الأداء رغم أن كل ملامحها تأتي بالرومانسية أو تغري المخرجين بالذهاب بها إليها. ويعود الأمر ويتحقق بشكل فائق الروعة في السمان والخريف مع الجبار محمود مرسي ويظل مشهد طرده لها وإلقائها علي السلم خارج الشقة وقذفها بأشيائها مشهدا مفارقا في السينما لأنه يبدو وقد حدث بالفعل. أما دور الخادمة في قاع المدينة فينضم إلي دورها في السمان والخريف في القدرة علي تقديم غير المألوف لوجه رومانسي مضيء. طبيعي جدا أن يتقاطر المخرجون من كل الأجيال إليها. من حسن الإمام إلي أشرف فهمي وحسين كمال مرورا بحسام الدين مصطفي ويوسف شاهين وكمال الشيخ وغيرهم. ولست هنا للحديث عن أفلامها ولا من شاركها في التمثيل من كبار الفنانين. أحمد مظهر وشكري سرحان وحسن يوسف وعبد الحليم حافظ وغيرهم لكن لأتحدث عن الوجه والروح التي ملأت حياتنا بالبهجة ولاتزال أفلامها تصنع البهجة لكل من يراها. هي نتاج زمن كان فنانوه يصنعون الأحلام بسينما تملأ فضاء الروح للبشر من موضوعات تتعمق في النفوس والمجتمعات والتاريخ أيضا. كانت السينما فيه مظهر عظيم للثقافة الروحية لمصر أو التي يسمونها بالثقافة الناعمة بينما كانت هي السلاح الأكبر لتحمل الحياة وفهمها والتحرك علي أمل بينها. حين أتذكر نادية لطفي وأتذكر من قبلها مثل فاتن وهند رستم وشادية وهدي سلطان وبرلنتي عبد الحميد وأنه كان طبيعيا أن يتسع الفضاء لنادية لطفي وقرينتها في الظهور وأعني بها سعاد حسني. حين أتذكر ذلك أقول لنفسي كل هذه الروعة مرت عليكِ يا مصر. لا يأخذني الحنين ولا النوستالجيا رغم أنها صارت أكبر من كونها ميلا نفسيا لكنها الحقيقة التي غابت. ذلك الزمن الذي قلت إن السينما فيه كانت روح الوطن. هناك الآن قنوات تليفزيونية عربية ومصرية تعيد الأفلام القديمة لكننا حتي الآن نفتقد دار سينما ولو صغيرة تُعني بالأفلام القديمة لهؤلاء العظماء. لدينا سينما زاوية فقط بين حين وآخر تقدم أسبوعا لأفلام أحد المخرجين مثل يوسف شاهين لكننا نحتاج إلي أسابيع لهذه النجوم التي أضاءت فضاء الوطن وفضاء العالم العربي كله. أجل لقد قاربت السينما بين الشعوب العربية أكثر مما فعلت السياسة التي انتهت إلي هذا الخراب الذي حولنا. لقد أخذت مصر وضعها بين الشعوب العربية بالسينما أكثر مما أخذته بالخطب السياسية أو حتي بالحروب والمساعدات في الحروب التي عادة يتم الاختلاف عليها فيما بعد لكن من يختلف علي أن إشراقة نادية لطفي عابرة للحدود والزمان. نادية لطفي التي سافرت إلي بيروت عام 1982 تشارك الفلسطينيين حصارهم أمام الغزو الإسرائيلي وخرجت معهم علي إحدي السفن كانت تدرك أن رسالتها العربية والإنسانية حتي ولو لم تقلها في أفلامها هي في أدائها الفائق لكن حين جاءت الفرصة أن تتواجد بنفسها وسط الموت لم تتوان. فوجودها كأفلامها حياة لمن يراها. أيتها السيدة العظيمة التي ملأت حياتنا بالبهجة والأمل دعيني أرسل لكِ شيئا من المحبة. أكيد تعودتِ عليها لكني في حاجة أن أقولها لكِ أنا الذي لم ألتق بك من قبل أبدا لكنك مشيتِ مع روحي وروح جيلي كله عبر الزمان. أنا الذي حين أقول هذا لك يعود إليّ الأمل في هذه الحياة.